عمر عناز و ثلة من كبار الشعراء العرب

عمر عناز

لقاء أجرته جريدة الايام الجزائرية مع عمر عناز بعد وصوله الى الدور النهائي في مسابقة فرسان القوافي

أجرى الحوار / د. خليفة بوجادي

قادم من العراق العزيز.. يخيط المعاني، ويقلـّب فجوات اللغة ليصنع شعرا رائقا كأحسن ما يكون الشعر، هو أحد الفرسان المتأهلين للدور الثاني من مسابقة فرسان القوافي برائعة (إلى أفروديت)، كانت لنا معه وقفة الكترونية، وكانت هذه المحاورة:

– الأيام الجزائرية: من يكون شاعرنا صاحب (إلى أفروديت)؟

ذات مساء عراقي مضمخ بالدمع تنهدت نخلة على شاطئ مثقل بالأمنيات فكان عمر عناز الطفل الذي أغراه السعف باقتطاف بلح الشعر، حينها سال على شفتيه عسل القوافي.

– الأيام الجزائرية: يبدو أن (قارب النسيان) لم يسِرْ بكم نحونا، فشاركتم متأخرين، أمَّــاذا؟

للشعر رائحة تغري القوارب باقتراف الرحيل، ويقيني أن الزمن افتراضي بالضرورة، وأصارحك أنني منذ لثغتي الأولى لا أحبذ الوقوف في (الطوابير) التي تمنهج الخطوات لأن الشعر يتماهى مع الفوضى المشاكسة، لذا فليتقدم جميع الزملاء وسأجلس على رصيف الشعر اقضم سندويش الكلمة بانتظار قراءة قصيدتي المرصعة بالمطر.

– الأيام الجزائرية: أنت تجرّ خلفك أتعابا كثيرة، وتبدو مثقلا منهوكا، من أين جئت؟

عندما يقدر للمرء أن تحترق أعوامه بين حربين وحصار ظالم فلا شك أن مسيره سيخلف نزيفا من شجن وحريقا من أمنيات تحت يافطة كبرى مكتوب عليها – انتبه هنا العراق-.

-الأيام الجزائرية: رسمتَ لنا موطنا جميلا كان لك، في مطلع القصيدة، كاد يُنسينا أوطاننا ونغبطكم على (غزْل المطر)، (بعثرة الوقت)، (تلعْـثُم الشوق)، و(قـُرى الماء)،الله الله.. ما الحكاية؟

كل البلدان العربية جميلة إن نظرنا إليها بعين المحب وتنفسناها بروح المنتمي فماذا يمكن أن نقرا في الجزائر غير الجمال والمحبة والوئام، أوطاننا يا سيدي جميلة ولكننا نحتاج أن نتهجأ تفاصيلها ببصائرنا وأبصارنا وان نحرص عليها لأن لحظة إدهاشها زئبقية.

– الأيام الجزائرية: لغتك في القصيدة يا سيدي غير عادية، وفيها سموّ بالغ، وصناعة آسرة، وهي فوق ذلك منقادة إليك تجرّر أذيالها، بالله عليك، من أين جئت. ولمن قرأت، ما مصادرك؟

تتلبسني اللغة بكل تفاصيلها، أعيشها ، تأكل وتشرب وتتسكع معي لكنني أحرص دوما على عصرنتها لثقتي بأن فيها كامنا من جمال خلاب، أما لمن أقرأ فأقدّر أنني مؤتلف مع كل حرف رشيق وكلمة رائقة ونص منسجم أيا كان منتجه ولا يسحرني بريق الأسماء فالنص هو الأصل بالدرجة الأولى أما الأسماء فقد يفيد منها موظف دائرة الجنسية والأحوال المدنية.

– الأيام الجزائرية: أتيتَ تحمل (القرى والأنفاس)، (الكأس بيدك)،(النعناع على شفتيك)، و(غزال قلبك نافر أمام نهد كافر)، إلى أين؟

إلى حيث لا دوال سوى الوطن، الوطن الذي تنبت أرضه شعرا وتمطر غيماته عطرا، إلى حيث الإنسان قيمة عليا، إلى حيث أغفو على مخدة من ياسمين.

– الأيام الجزائرية: وبعد السفر، وفصول التعب، ومواسم العياء، يأتي النكران: (وأنكرته غصون طالما افتُـرعت.. من راحتيه وصاغت ظلها صورا/ فيا له موجَعا إذ كل أنمُله.. خانته حين رمى صنارة الشعرا).. أهذا حظ الشعراء – عفوا الأنبياء- دوما من الناس؟

بالتأكيد ، ويجب أن يبقى هكذا، فمنذ أفلاطون والشاعر يعيش عزلته خارج ديناميكية المجتمع لأنه مشاكس ومقلق، وحضوره يسبب حساسية، لذا فقد تم عزله والتنكر له بأمر من محترفي القراءة بالمقلوب مما يوجب علينا أن نقف مع الخاسرين كما يقول (لوركا).

– الأيام الجزائرية: أين أنت اليوم وقد دارت بك الأفلاك دورتها؟

أنا اليوم مع الأطفال في مدارسهم الشاحبة التي يتناوبون الجلوس على مقاعدها المهشمة، أنا اليوم مع الثكالى من النساء الذابلات، مع الصبية الذين يبحثون عن مراجيح لم تهشمها الطائرات، مع الأيتام، مع الربيع الذي ينطفئ زهرة زهرة بانتظار غودو.

– الأيام الجزائرية: أتيتنا من العراق العزيز علينا، كيف يحيا الشعراء هناك، والفقراء الذين يتبَعونك؟

العجيب أن هذا البلد له قدرة مذهلة وإصرار مدهش على البقاء، فمن يصدق أن الأدباء هناك يقيمون جلسات وحوارات ثقافية، نعم هذا ما يحدث فمازلنا نتنفس الشعر والأدب وسط أجواء لا يعلمها إلا الله، تصور أن هؤلاء الأدباء يجتمعون دوريا لمناقشة أمور ثقافية عن علم الجمال واللون والحداثة وما بعد الحداثة كل هذا يتم في مكان لا تستطيع الوصول إليه بواسطة سيارة لأنه مطوق بالأسلاك الشائكة والحواجز الكونكريتية ورغم هذا يحضر الجميع للحوار والتفاعل مؤكدين للآخر أنهم شعب حي مهما تلبدت السماء. والجميع-هناك- شعراء/ فقراء يسيرون باتجاه العراق.

– الأيام الجزائرية: في ختام هذا اللقاء..عزمنا على اتـّباعك مع العشاق والفقراء،، قل لنا شيئا..

شكرا للجزائر التي منحت للشعر متنفسا، شكرا للجزائر التي تمنح الشعر أفقاً مدهشاً ومساحة من ضوء، وشكرا للأيام التي لونت أيامنا بالشعر.

النص العمودي في مواجهة الآخر…قراءة في قصيدة ..ارتسامات لغيمة عابرة

النص العمودي في مواجهة الآخر..بين انكسار الفضاء الشعري ومرارة التجربة

قراءة في قصيدة (ارتسامات لغيمة عابرة) للشاعر عمر عناز

(الوهم الجمالي هو الوهم الوحيد الذي لايستطيع الكذب) روديجر بوينر

إن الافتراض النقدي القائل (باجتراح النص لقراءته) مقبول وعلى مستوى من المعقولية،ولكنه قد يؤدلج النص والناقد معا،وان كان المنهج النقدي يستشرف الادوات التي من شأنها ان ترسم للناقد كيفية اجترار النص وهضمه ، ولكنها في الوقت نفسه قد تقوّل النص وتضعه في غير ما تحتمله قصديته المحتملة ودلالته ، ووفق هذا التصور يصدق الاعتقاد القائل بان النقد تلفيق(تلفيق هادف ومنظم) يحتمل التأويل والتخريج الجمالي المناسب الذي من شأنه ان ينور النص ويمنحه قيمته الفنية التي من اجلها انتخب النص للقراءة ، ومهما يكن فان اي محاولة نقدية – وان كانت غير ممنهجةـ فانها ستنضوي في النهاية تحت عنوان نقدي معين،وليس المهم في الارتكان للمنهج النقدي هو طرح الادوات على الطاولة بل المهم ان يثرى النص وان تعطى قيمته الفنية لترقى الى مستوى الاختيار والى مستوى الشاعر، فالنص الذي نحاكيه في قراءتنا المتواضعة هو نص عمودي وقع اختيارنا عليه من مجموعة للشاعر عمر عناز بعنوان ((خجلا يتعرق البرتقال )) الصادرة عن دار الصدى في دولة الامارات و التي فازت الاولى بجائزة دبي الثقافية لعام 2008- 2009 ،والحقيقة ان الملفت للاختيار هو الانعطافة الجمالية التي حققها الشاعر في نصه على الصعيد العمودي ، فبعد المد الحداثي الذي يشهده النص الشعري القائم على تخصيب المعنى وتكثيفه واعتماد الميتالغة المتمثلة بقصيدة النثر والنص المفتوح اضحت القصيدة العمودية تواجه تحديا تركيبيا جديدا على مستوى الصياغات واللغة والخروج عن المواضعة الطبيعية للغة ،وليس الخروج بمعنى الجنوح الى الغموض والتعقيد واعتماد اللفظ الرنان بلا مؤدى جمالي او بعد دلالي بل اعتماد الصيغ اللغوية المرتفعة والعفوية في الوقت نفسه ،فألسنة الاشياء وتوظيف المهمل يمنح النص تشظيا جماليا مذعورا وراكضا الى الحد الذي يمكن ان نطلق عليه حداثة بحق ، وما حققه الشاعر عمر عناز في نصه يعكس التحدي الذي وضعت فيه القصيدة العمودية ،وقد رد الاتهامات الجازمة بعدمية مايمنحه النص العمودي على انه اصبح اشتغالا مستهلكا وتقليديا ،ان ارتسامات لغيمة عابرة كعنوان لنص شعري وحده يمثل القفزة اللغوية والدلالية التي تساوق الفعل الجمالي المتقد،وهكذا فالصيغة والشكل الذي جاء عليه النص عمقت الحضور الحداثي المرتقب ،ان اولى المواجهات التي تبناها العناز في نصه ، هي كسر الشكل التتابعي (الافقي كقراءة)، ليجعل النص يقرأ تعاقبيا، اذ لم يكن هذا البناء الجديد تعسفيا بل انه جاء لاعتبارات فنية مرتبطة بايصال المعنى من جهة وبالتواشج الايقاعي من جهة اخرى ،وهذا لايعني ان رد الصيغة الافقية للنص لاتمنح المعنى او لاتكشف المظهر الايقاعي للنص ، ولكن الشاعر استطاع ان يتجنب ما يمكن ان يعطله الحشو الشعري في كسر افق المتلقي وفي اخماد الجذوة الدلالية بين النص والمتلقي ، فقام بإلغاء العروض (نهاية البيت في كل شطر ) اي لم يجعله تقابليا كما هو مألوف وبذلك الغى الزمن الذي يمكن ان يستغرقه القارئ في تلقي البيت ، انه يحيل النص خطابا(شفاهي) على الورق ،(الورقة /منصة)وهو بذلك يزاوج بين القراءة والسماع،ان هذا الكسر والخروج والانزياح على مستوى الشكل الذي لم يخل بالسيادة العروضية لم يتوقف عند هذا الحد بل امتد الى البنى الدلالية الباطنية المتمثلة باقصاء المكان واختفاء ذات الشاعر نسبيا لتخرج في النهاية وهي منكسرة ومنهزمة، ان الفضاء الشعري لدى العناز فضاء هلامي (في الزمان)،اذا انه لايعول كثيرا على الزمكان في اعطاء المبررات الفنية التي من اجلها يمكن ان تشخص مغذيات النص والشاعر على السواء ، فهو في ارتساماته يتوارى خلف اعتمالاته الجمالية وما يلبث ان يظهر بعد ذلك ، ولكنه يظهر بحثا عن ذاته ، وكأن النص جاء لايجاد الشاعر واثبات كينونته، ولكن دونما فضاء ممسوك،ان الفضاء الذي يتحرك فيه الشاعر غير موجود وهو كثيرا ما يحاول ان يثبته ، فالمكان عند عمر عناز هو الماء بكل ما يحمله من رمزية ودلالة ولكنه مكان افتراضي وبالتالي فان الشاعر عائم في ذلك الوسط ان لم يكن غارقا فيه وهذا يتجلى في البيت الاول من النص:

من فكرة الغيم

كنا نغزل المطرا

وننفض الدمع عن احداقنا

لنرى

فالصيغة التأملية الفلسفية التي يحيلنا اليها العناز في قوله(في فكرة الغيم) تجعلنا نصادق على دوغمائية المكان (الغيم = المكان /الرمز/ الدلالة) ليس الغيم نفسه بل من وجوده كفكرة لكن الدلالة تتحقق في قوله (نغزل المطرا ) ومن ثم يتحقق اختفاء الشاعر في قوله (كنا) فهو على مدى ابياته الخمسة يكرر افعال الكينونة (كنا / كان /كانت) وهو يحقق في البيت ايجابية لانها افضت الى ان يغزل المطر ، وقوله (ننفض الدمع…..لنرى) فهي ايضا تمثل رؤية ولكنها رافضة لهذا النوع من الماء ( الدمع) وكأن الماء هو الذي يجعله يرى وهو الذي ينقض لديه الرؤية وفي كلتا الحالتين استطاع ان يحققها : فكرة الغيم ( رؤية …….تغزل المطرا )

لنرى ( رؤية ………ننفض الدمع من احداقنا )

ان الشاعر ابتداءً من عنوان نصه حتى البيت السادس ينحى منحى قصصيا ، فطابع الحكي يتجلى في تكراره للفعل ( كان ) في كل بيت :

كنا نفتش عن ظل لضحكتنا

خلف النهار

وكان الوقت منكسرا

فالفعل (نفتش ) لايمنحه وجوده كذات فاعلة في النص، الا انه يبعث على الاستمرارية والبحث، لكن بأي صورة ؟ نستطيع ان ندرك هذه الصورة الراكضة والقلقة بجلاء ووضوح فأن تفتش عن شيء بوقت منكسر هو الجزم على عدمية العثور عليه، والذي عمق هذا الاضطراب والعدمية قوله ( خلف النهار ) ولكن هل كانت الضحكة هي المعادل الموضوعي الذي اقترحه الشاعر بديلا عن الدمع ؟ بالتاكيد لم تكن كذلك لأنه كان يحاكي ظلا لتلك الضحكة وما يؤكد صورة السعي وراء توازن الشاعر الطبيعي القائم بلا جدوى هو قوله في البيت الثالث:

مبعثرا كان

مخمورا باغنية

تلعثم الشوق في اوتارها

فسرى

اذ ان مفردتي ( مبعثر /تلعثم) تؤكدان استمرارية القلق والاضطراب للزمن الذي ألغاه الشاعر في بيته المتقدم، لتستمر وتيرة القلق بصيغة الحكي ،ولكنه من خلال الاسترسال القصصي يحاول ان ينطلق من مكان آخر (في بيته الرابع):

كَانتْ لنَا قَريةٌ أَنفاسُها وَرَقٌ

في دَفترِ الماءِ

اذ تطفو عليه قرى

الا ان المكان الجديد هذه المرة معترك وشائك وغارق في امكنة اخرى (قرية /قرى) حيث ظل المكان الاول هو المهيمن واللاغي في الوقت نفسه للمكان الاخر (دفتر الماء)، ان التقاطات الشاعر في توظيف المكان كتمركز مرة وبين توظيفه كمعنى يساعد في تشغيل الفعل الشعري اثرى البعد المتماسك لبناء النص وجنبه الخروج اللامبرر وهذا ما يعود عليه كمرسل متمكن من ادواته على مستوى المفارقة المعنوية واللغوية وعلى مستوى حضور النص كبناء موجه لاقرار موضوعة معالجة بنسق واحد من التسلسل الموضوعي والفني على السواء،وهو البيت الذي مهد لانتقالة جديدة دونما ان تخدش جلال النص كمنظومة جمالية ،ان هذه البداية يمكن ان نعتبرها النص الجديد المبطن واللابد في النص نفسه، كما انه الم تلغ وسطه المكاني العائم او الغارق فيه ، ولكن اسست بداية لظهوره :

فَأَينَ ياقاربَ النسيانِ سِرْتَ بِنا

وَكيفَ جَرّحْتَ صدرَ البحرِ… فَانهَمَرا

يستدعي الشاعر وسيلة فاعلة ومناسبة لوسطه ومكانه الافتراضي الذي افرغ فيه اشتغاله والوسيلة نفسها هي المعادل الموضوعي للتخفيف من مرارة التجربة ،واذا اردنا ان نقارب المشهد (كتناص قارئ)، هناك تعالق نقدي بين نص كعب بن زهير (بانت سعاد) ونص العناز هذا ،حيث ان وسط كعب كان الصحراء ووسيلته كانت الناقة ،واي ناقة ؟يصفها بانها سريعة وقوية وتكاد ترتفع عن الارض ،وهذا يعود لقلق الشاعر ازاء تجربته ،فهو مهدد من قبل الرسول (ص) فكان يلقي بصفة السرعة على الناقة لانه يريد ان يصل بالسرعة التي يمكن ان تعتقه من خوفه وقلقة باقرب وقت ممكن وكذلك كانت الناقة هي المعادل الموضوعي للمرأة ،المرأة التي خذلت الشاعر على مر الوقت ،فهو يصور الناقة وكأنها امرأة ،تنظر لنفسها في المرآة بل وتنام الى جانبه على ساعده!!كلاهما يخاطب معادله – ان صحت المقاربة – فلو تأملنا خطاب العناز:

هلا تَمهَّلتَ

فالكأسُ التي بِيَدي

ماأُفنيت خَمرُها

أَو لونها اعتكَرا

والشَّاهدانِ

شُحُوبِي

وَارتعاشُ يَديْ

فلا تَلُمْ مُدْنفاً بالعِشقِ إِنْ هَذَرا

إذ نصف حقل من الأحلام

في رئتي

شاخَ انتظارا،

ونصف في دمي انتحرا

هذا خطاب واضح لمن يختفي خلف معادله(قارب النسيان)

فبعد ان كان الشاعر محاصرا بدلالة الهبوط المتمثلة بالمطر استطاع ان يرفع هذا الماء الذي هو مركز اشتغاله كدليل على الانعتاق او الارتفاع ( البحر ينهمر) في البيت السادس،انه يستخدم خمسا وعشرين مفردة او دالة على الماء لتتمظهر ذات الشاعر شيئا فشيئا ،( الكاس التي بيدي /افنيت /ارتعاش يدي /الاحلام في رئتي )

وفي البيت العاشر يرجع النص الى درجة الصفر ليبدأ من جديد من خلال مفارقة اخرى :

أَرجُوكَ لاتبتَعدْ..

قَرِّبْ خُطاكَ

فَفِي قَلبي غَزالٌ مِنَ الأَشواقِ

قَدْ نَفَرا

بالحقيقة انها مفارقة خادعة لمونولوجه وللمتلقي على حد سواء،( قرب خطاك /نفرا) فكيف يكون الاقتراب من نافر ؟ ان البعد النفسي المتأزم الذي سببه المونولوج لذات الشاعر جعله يضعف ( ارجوك) ولكن الحقيقة ان الشاعر يريد بالاقتراب اقترابا اخر ولا تبدو هذه الدعوة للاقتراب حميمية ابدا ، فما يلبث الشاعر ان يغيب من جديد ويبدأ بمغايرة مخاطبه الخفي ثم يحيل الخطاب عن نفسه بصيغة الغائب ثم قبل ان يعلن انهزامه:

مِنْ أَينَ يَهربُ؟

مِنْ أيِّ الدُّروبِ

وقَدْ تَشعَّبَ الموتُ في عَينيهِ

وَانشَطَرا

وَأَنكَرتْهُ غُصونٌ طالما افتُرِعَتْ مِنْ راحتَيهِ

وَصَاغَتْ ظِلَّها صُورا

يتجلى مخاطبه بوضوح وتنتفي دعوى معادله:

وَخَلِّ بَيني وَبَيني

كَي أُنازِلَني

وَأَذبَحَ العُمْرَ قُرباناً لِمَنْ هَجَرَا

مَنْ عَرّشَ الآسُ في مِيناءَ أعينه

وَمَنْ لِعُشبِ التَّشهي في دِمَاهُ عُرَا

فَهْوَ الذَّي بذَرَ النَّعناعَ

في شَفَتِي

وَحِينَ سَاءلْتُهُ عنْ غَرسِهِ

نَكَرا

هنا تتضح معالم التجربة واضحة ،وكأن الشاعر ضاق ذرعا بالاختفاء خلف مخاطبه الخفي ،فقد تجلى ذلك في قوله (لمن هجرا/فهو الذي) وهكذا فان اضافة معادله(القارب) الى النسيان هي محاولة لانعتاق الشاعر من التجربة المريرة وقد تمثل ايضا مشهد الانكسار الذي عاشه الشاعر وكأنما الخذلان والنكران هما ضريبة الشعر التي يتوجب على كل شاعر ان ينوء بدفعهما على مر الشعور

ان قصيدة ارتسامات لغيمة عابرة تعد قفزة شعرية مميزة في المشهد الشعري العراقي على الخصوص، فالتجربة العمودية التي يخوضها عمر عناز مع مجايليه امثال محمد البغدادي وهزبر الزبيدي وحسين القاصد وعارف الساعدي وماهر عبد الله وحمد الدوخي ومحمد الاسدي وغيرهم هي بمثابة انعطافة جديدة للشعر العمودي بكل المستويات ابتداءً بالشكل الذي جاء مغايرا ، وقد خرج به عن المواضعة الطبيعية لشكل القصيدة العمودية ويمكننا ان نحيل ذلك الى اعتبار جمالي وفني مرتبط بمستوى انتقاءات الشاعر لصوره الشعرية ، مرورا باللغة وتوظيف الصياغات الجديدة وتسخير طاقات الابحر الشعرية بكل ما تستطيع ان تمنحه من ايقاع خارجي من خلال مساوقة المفردات والصيغ الشعرية انتهاءً بالمؤدى الدلالي القائم على نسغ من التشظي والموشورية في المعنى ، ان عمر عناز شاعر يقف على طاقة شعرية لذيذة وممتعة ورقيقة وفاعلة حد الدهشة ،واكاد اجزم على انه خارج معادلة التأثير والتأثر – وان كانت هي لاتنقص شيئا من بهاء الشعرية كاشتغال جمالي ان وجدت – انه حداثي خرج عن كونه افقا يقتفي ميل الدائرة الى كونه ركنا يخط ويرسم انعطافة فنية جديدة ستثبّت يوما على خارطة الشعر العريضة ليقال: ان عمر عناز العمودي الذي خصب اللغة وأنقذ الشعر من احتباسه الدلالي ،انني عندما اقرأ له اشعر وكأني لم امر بأرث شعري من قبل فما اظلم من يعطيك من شعره ليأخذ من قلبك؟!

الشاعر والناقد سراج محمد

جامعة البصرة

سيميائية الاستفهامية المرذوذة… الناقد عبدالكريم يحيى الزيباري

(إنَّ نصف تاريخ الشعر الحديث هو قصة افتتان الشعراء بأنساق صاغها العقل النقدي)

أوكتافيو باث

و”رذاذ” الشاعر عمر عناز، عنوان مجموعة شعرية، الشعرية تنعش الذاكرة، الذاكرة خانات، الخانة بحاجة إلى زمكان وعنوان، العنوان رذاذ كنسمة هواء بارد في ثقافة صيفية جافة، والرَّذَاذُ هو المَطَرُ الضَّعيفُ، الصِّغارُ القَطْرِ كذرات الغُبارِ، ذرة الغبار علامة مستقلة، تموضعت وسط شبكة محصورة، من العلاقات النصية، وفي نفس الوقت يمكن تعليقها بعلامات أخرى، مع ملاحظة التمييز بين العلامات كما تبدو لنا ظاهرة في الوهلة الأولى، وبين العلامات في ذاتها، فنحن لا نعرف إلا الظواهر، فنحن نعرف أنَّ الثمار الناضجة تسقط من الأشجار، أما إسحق نيوتن فيعرف أنَّها سقطت بسبب الجاذبية.

كأنَّ علامات النص المَنْثورة، بَعْدَ صواعق المزنِ المَحْذُورة، تُنَثِّرُ للشعرِ فوضى رذاذِه، لا كأخذ التلميذ من أستاذهِ، في قراءةٍ تمتار التقليد عن نفاذه، ويراوغ الدالُ مدلولاً لاستنقاذه.

هل من الممكن تطبيق السيميائية في قراءة الشعر، أم انحصرت تطبيقاتها على السرديات؟

أليس اكتشاف العلامة أسهل بكثير من غرزها في مكانها المناسب داخل المجتمع؟

إذا كان المجتمع دائم الحضور في كل علامة من علاماته، فكيف ولمصلحة مَنْ تمَّ تجاهل الحاضر في استحضار الغائب؟ فلا كعباً بلغنا ولا كِلابا، ولا أرضاً قطعنا ولا ظهراً أبقينا..

كيف نقيم علاقة بين المجتمع وبين النص؟ وكيف نصف هذه العلاقة المتمحورة حول العلامة؟

لماذا حين استنبط جورج لوكاش مقولته(إعطاء المقولات الجمالية صفة تاريخية) من هيغل، لم يغفل استخدام المصدر إعطاء بدلاً من الفعل نعطي؟ أليس لأنَّ كل علامة نجحت في الارتباط بعلامات حيوية داخل المجتمع ويفرض نفسه على التاريخ قسراً من خلال تقديم تأويل للكيفية المتغيرة للنشاط الإنساني؟

هل من الممكن عزل كل علامة في النص، والبحث عن مدلولاتها ككيان مستقل، قادر على إنتاج معانٍ مختلفة؟

لماذا تأخر المنهج السيميائي في قراءة قصيدة النثر؟

لماذا طغتْ على القراءات النقدية العلاقات والذوق الشخصي والانطباع؟

تأكيدات الكل مستمرة على تغييب المؤلف ومقاصده، والتحذير من فرض معنىً متوحد يجثم على رئتي النص ويقطع أنفاسه، فيعيش المؤلف ويموت نصه، فلماذا انشغل النقاد بصورة الكاتب شاباً وصورته كهلاً، وصفاته الشخصية من شجاعة وكرم ولطف، مبتعدين عن النص حذرين من إسقاطاته(الأدبية/الاجتماعية/النفسية)؟

تقترن فكرة التابوات الثلاثة(المؤلف، النص، القارئ) بصراع نقدي وسجال فكري عريق قبل أن يستولي عنوةً على عالمنا النقدي الذي تميز بهالة من القدسية تتمركز عند شخص المؤلف وتتبدد عند النص وتهمل القارئ، وقد أفضى هذا الصراع الصوري والجمود الثقافي إلى ظهور أنظمة نقدية تقوم على العلاقات الشخصية، ففي لقاء مع أحد المثقفين سألني عن أحد الشعراء فقلت ببساطة: سمعت عنه ولم أقرأ عنه، فهاجمني وقال لي أنت غير مثقف وأنت لا تواكب، علماً أنَّ الشاعر المقصود والله لم ينشر له قصيدة في مجلة أو جريدة عربية، ولكن صدفةً بعد أكثر من شهرين على سؤاله رأيتُ له نصا في مجلة دبي الثقافية عدد 12/2006 وهو يقول في ص126(الشاعر/ما العهد/ما الفرمان/ما الصرخات/ما الداء/الدواء/الأنثى/أنا/ معا في الليل نحيي الحب بالقبلات لكن دونما عض/الشاعر/وتسحبني إليها/ذا الجمال/وذا التألق)فكيف لي أنْ أعرفه، وهل بمقدوري أن أتعرف على كل الشعراء ومن يظنون أنفسهم شعراء؟ وكيف ينمحي كل شيء بسهولة لأنني لا أعرف شيئا واحداً من العلم الذي لا ينفع؟

أليست الاستفهامية جديرة بدور ضابطٍ للعلاقة بين السيميائية ونظريات المعرفة المرذوذة؟

هل يمكن دراسة رذاذ ظواهر الوعي بمعزل عن العلامات السيميائية؟

كيف للقارئ أن يميز بين قصيدة وقصيدة نثر أخرى بمقياس غير العلامات؟

أليست العلامات هي كائنات مختبئة في كلمات كامنة مختصرةًً المواقف والمشاعر؟

لماذا يشترط حضور الإدراك والانتباه والإحساس كرذاذ لترطيب بناء المشروع السيميائي؟

كيف تصير العلامة قابلة للاستكشاف عن طريق الإحالات الخارجية للعلامات التي يبتكرها الذهن الشعري؟ وكيف يتمثلها ذهن المتلقي؟

هل من الممكن تعرية فهم العلامة لتمنحنا فرصة ثانية وثالثة للإحاطة بسياق دائرة المعاني المرذوذة؟

هل من الممكن استفزاز العلامات المختبئة(غير المرذوذة) وراء الرؤية التأملية للرموز الاستشرافية المرذوذة؟

وكيف إنَّ الرذاذ العام يدخل عنوةً إلى حدود النص العنازي، ولكل جملة شعرية نثرية: رَّوْذَةُ(الذَّهابُ والمَجيءُ)في نصٍّ مُرِذٍّ: ذُو رَذَاذٍ استفهامي.

يقول عمر عناز في مستهل قصيدته:

وجهك هو الصفحة الأولى من كتاب القمر

منذ افترقنا

وأنا أفلسف الوقت

وأعيد افتراض الأمكنة

ويقول الشاعر عمر عناز في نهاية القصيدة:

منذ ارتعاش يديك

-ذات اتقاد-

أعلم أنني المعنيُّ بالاجابة

على أسئلة النص

ولديَّ اعتراض أسجله حول عدم وجود همزة تحتية في إملاء الإجابة، التي كتبت الاجابة…والإجابة تكون عن أسئلة النص وليس على أسئلة النص..

ولديَّ اعتراض ثانٍ حول عدم انكسار النسق ولا انحراف السياق عن خطه المستقيم، كقصائد أحمد مطر كلها وبعض قصائد أمل دنقل، وهو ما يتكرر عند معظم شعراء الحداثة وما بعدها خلا أدونيس ووحشية انحرافاته…

وجهك صفحة كتاب، صفحة وجهك كتاب، كتاب وجهك صفحة، وجهتك صفحة الكتاب، صفحتك وجهة الكتاب، كتبتكِ صفحةٌ ووجهة، كتبتك وجه الصفحة….الخ

في محاولة للقبض على العلامة الغائبة من علامات النص: الصفحة الأولى تفترض وجود العديد من الصفحات، فكم عدد هذه الصفحات؟ أليس من المحتمل أن تكون لا نهائية؟

لماذا يفترض أنْ تكون الأولى أجمل؟ ولماذا يعرف الصفحات ونحن ننكرها؟ وما هي صفحات كتاب القمر؟ وما هو كتاب القمر؟

التصويري بجدل الحداثوي يذوب بسرعة في وقتٍ مفلسف مع ثيمةٍ مرذوذة:

القمر × الشمس(آيتي الزمن) / التقاء × افتراق/ أفلسف × أفترض / الوقت(زمان) × الأمكنة(مكان)/ الفلسفة × افتراض(آيتي المكان) / الافتراض × قطيعة زمكانية

وإذا كان وجهها الصفحة الأولى فكيف يمكننا أن نتنبأ أو نستنج الصفحة الثانية؟ كما نستنتج اللقاء الطويل والسابق لـ(منذ افترقنا)

متى افترقنا؟ هذا هو السؤال الخطير، وليس بأقل أهمية من: لماذا افترقنا؟ ولا كيف افترقنا؟

فلسفة الوقت وإعادة افتراض المكان، حلان لكل قطيعة آنية والإشكاليات والمسائل المستعصية.

وجهك + الكتاب + القمر = علامة خارجية ملموسة محسوسة وملحوظة.

الوقت + الفلسفة + المكان المفترض = علامات داخلية ملحوظة مدعومة بثلاث علامات خارجية محسوسة وملموسة.

الوقت صفة ملحوظة مرتبطة بمكان مفترض، ولكل مكان وقت يخصه بحسب موقعه من الشمس والقمر، وهكذا فالزمكان صفة استقلال الحدث(الافتراق وليس الفراق، كإشارة إلى السبب الذي من أجله حدث(الانفعال/الافتراق)، وتستمر انسيابية الصور الأخرى، لتتوازى في مسيرتها مع انسيابية رذاذ الاستفهامية التي تستثيرها وترفد معانٍ مختلفة ومتحركة، يمكن استنتاجها من أسئلة لا نهائية كـ كيف يسحق الزمان كل شيء(الصلب والمرن) ويحيله رذاذا إذ يُدَوِّرُ الرؤية ضمن عالم الفينومينولوجيا(الظاهراتي) لدراسة ظاهرة استفهامية الرذاذ الشعري باعتبار الشعر هو اللغة، واللغة هي العلامات، وكل علامة ظاهرة، ولكل ظاهرة ملاحظتان داخلية وخارجية، أو محسوسة وملموسة…

وكيف سنتعرف على ظاهراتية علامة معنية بدون استنادها على علامة سابقة وربطها بعلامة لاحقة؟ وكيف يمكن معرفة شيء ما دون الاستناد على معرفة الشيء الذي أوصلنا إلى محاولة معرفة هذا الشيء؟

حتى في الحالة التي تعود إلى قصائد ونصوص أخرى في شموليتها، فإنها ستنتظر زمكانية مرهونة بالمستقبل ضمن تطابق زمكاني لنصوص تستهلك الأسلوب في طلب الجمالية[1]، وتنتج التأمل في ظواهر علمية، فتفصل بين تذوق النص وبين قراءته، وتحدث قطيعة بين العلمي التأملي والجمالي الاستهلاكي في آفاق العلم التأملية الناتجة من الفلسفة التأويلية، أو منهج البحث بغض النظر عن النظريات الفلسفية والنقدية التي تستخدم في معاينة النص في إحالة إلى الاستقراء الاستفهامي للنص.

مزجت الاستفهامية النص بين شعرية العلامة سواء كانت منفردة أم في سياقها، وبين شعرية التأمل العلمي للعلامة المنفردة المنفصلة تارة وفي سياق النص تارة أخرى وفي الحالتين لا يمكن فصل العلامة عن زمكانها كظاهرة كونية، وهنا يستدرجني تفصيل علامة الكونية، كينونة وصيرورة تارةً وكونية في مكانتها من الكون كنظام متكامل، في استفهاميات من أين أتى هذا الكون؟ كيف بدأ؟ وكل هذه الأسئلة تستدعي الرياضيات والعلامات الرياضية قد يفر منها نصف قراء النص حال ملاحظتهم لأي معادلة رياضية. لأن العلامة سواء ملحوظة أم ملموسة لا تتشكل كظاهرة بالحديث عنها فحسب، ما لم تدخل في علاقة رياضية مع غيرها من العلامات:

منذ افترقنا × منذ ارتعاش يديك × عندما تراودني الكتابة/ أتذكرك × عندما تَمرّينَ مِنْ أَمامِ مِنصّةِ القَصيدة….

ذات زمان: ذات مساء، أو ذات خريف، حولها الشاعر إلى ذات مصدر، ذات اتقاد، كما فعلت أحلام مستغانمي في رواياتها(ذاكرة الجسد) حين كررت((ذات ديسمبر-ص42-ذات أيلول- ص51-ذات جليد- ص89-ذات مطر-ص101-ذات أكتوبر- ص101-ذات مرة -ص183-ذات 30 أكتوبر- ص183-) فذات ظرف زمان لا يختلف وظيفياً عن(منذ افترقنا) و(منذ ارتعاش يديك).

ارتعاش × افتراق / اتقاد × تفلسف(افتراض) / الإجابة × أسئلة النص

إذا كان الشاعر قد أكدَّ خصوصيته في الاعتناء بالإجابة عن أسئلة النص، لا لشيء إلا ليشير وينبه القارئ إلى ضرورة التأمل والإجابة عن أسئلة العلامات النسق، وقد يعترض علينا بعض الشعراء، باعتبار هذا المنحى غلواً وإيغالاً في افتعال الإبهام والاختلاف في تأويل كل علامة، إلا أن هذا الاعتراض تذهل الجميع عن حقيقة القوانين أو منهج تأويل علامات النص، والتي قد تسمح بالمزيد من العلاقات مع النظام الاجتماعي والعقل السائد، وربما اعتراضه هذا ناتج من أناه العالية ونرجسيته الثقافية، لأنَّه ما كان سيعترض لو أن العلامات المدروسة كانت مأخوذة من أحد نصوصه، وقد أعترض علي أحد الشعراء، بأنني أعطيت أحد الشعراء أكثر مما يستحق، فقلت له أنا لم أتحدث عن السيرة الذاتية للشاعر ولا عن صفاته الشخصية بل تحدثت عن مقطع صغير من أحد نصوصه، وكان ولا زال رأيي قابلاً للتخطئة، ورغم ذلك لم يقتنع وأعطاني أحد نصوصه قائلاً لي أن أكتب عنه شيئا، وكنت سأفعل لو لم يتعجل ويطلب، وهكذا فالنقد عندنا حسب الطلب وحسب العلاقة ونادراً ما نرى ناقداً يتناول نصاً لأديب لا يعرفه، وكأنهم لم يسمعوا بقاعدة أكتب نقد وأرمه في الشط، وهي قاعدة شعبية موغلة في الخطأ، فنحن نصنع المعروف حبا في الله، ولا نرميه في الشط بل نحتسب أجره وثوابه عند الله الذي لا تضيع ودائعه، ونكتب نقداً حباً في الإبداع لا تملقاً وطمعاً في دعوة إلى مهرجان ولا إلى فنجان شاي.

إنَّ ثبات النسق الذي يتبعه الشاعر عمر عناز وعدم انحرافه عن أنويته وعن حبيبته مركز النص، قد يحيلنا إلى سيكولوجيا العلامة، فالثبات تأتى من انحصار الأفعال والسرد بين(الأنا وهي)كما في النص التالي:(أفهمك(أنا) جيدا/ فلا تحاولي(أنتِ/هي) أن تهادني(أنتِ/هي) المطر/ بابتسامةٍ ماكرة/ لأنني(أنا) يا(أنت) طفلتي(أنت)مدججٌ بالأسئلة(نعت للأنا)/ أبحث(أنا) عن قصيدة عنوانها/ علامة استفهام/ عندما تراودني(أنا) الكتابة/ أتذكرك(أنتِ)).

كل ما بين قوسين ليس من ضمن النص الشعري، بيد أن توجه العلامات في مذاهبها وتعالقها وتواصلها لا تستجيب إلا لذواتها منفصلة، كعلامة الضمير المستتر أنا المختبئ وراء معظم علامات النص، قريباً أو بعيداً عن واقع قصيدة النثر المصطدمة بازدواجية مستمرة بدءاً بعنوان جنسها المشتمل على(الشعر والنثر)وهذا يصبُّ الموضة تَقيه مغبة السقوط في التناقض من المنظور الشعري، تتفاعل الصورة الشعرية ببعض المؤثرات الجمالية القائمة على نظرية الغاية المعرفية التي تخضع لثقل التوجه الذوقي وتحليل الخبرات الفنية بتحديد مجال الرؤية الشعرية.

——————————————————————————–

[1] لا أقصد بالجمالية التمييز بين القبيح والجميل، ولكن أقصد التطريس(محو وتثبيت) الذي قام به كل شاعر قبل أن ينشر نصه ويتخلى عن صلاحيته في إحداث أي تعديل آخر، رغبةً منه في أن يقرأ وتعاد قراءته كل مرة بصورة مختلفة.

بين ق . ق . ج والشعر.. رذاذ ..وتلاوين الأجناس الأدبية

القاص والناقد أنور عبد العزيز

أول ما صدر للشاعر عمر عناز مجموعته (فجر الرؤى) 1999، ثم أتبعها بديوانه (لهاث الموج) 2001 وبعدها ساهم في مجموعة شعرية مشتركة بعنوان: (نقوش على وجنة البيبون) 2002، بالإضافة إلى نشره العديد من القصائد في الصحف والمجلات العراقية والعربية، وأخيراً (رذاذ) من مطبوعات (الاتحاد العام للأدباء والكتاب في نينوى) 2007 بإصدار جميل من الحجم الصغير في خمس وستين صفحة ضمت خمساً وستين (مقطوعة).. مقطوعات غالبيتها لا تزيد على سطرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وواحدة منها فقط بلغت ستة أسطر…‏

عمر عنّاز بدأ شاعراً كلاسيكياً ملتزماً بعروض وأوزان وتقنيات ذلك العبقري المذهل الفراهيدي، وقد قيل إن عبقري البصرة ربّما استنبط أوزانه وترانيمه بعد أن مرّ بسوق الصفافير، ومنح سمعه الدقيق المرهف- وبتفاعل الموسيقي الكبير- لضربات وإيقاع تلك المطارق واهتزازات نغماتها الموزونة- مع اختلاف الضربات بحساسية نوعيات تلك المعادن، هذا ما تحدث به بعض رواة التراث الشعري، ومهما كانت الحقيقة فإن المسألة تبدو مقبولة، ثم هي تتعلق بالموسيقا والتنغيم، والشعر هو موسيقا الحياة بكل تلاوينها وعواطفها ومشاعرها ودفق انفعالاتها وبكل ما فيها من حدّة وقلق وتوتّر أو استرخاء ونعومة.‏

وإذا كان الشاعر عمر عنّاز قد جرب كل ألوان الشعر شكلاً ومضموناً: العروضي والحرّ والتفعيلة وقصيدة النثر، فإننا نجد في مجموعته الجديدة (رذاذ) شيئاً غريباً. هل (رذاذ) قصيدة واحدة فرّقها الشاعر بهذا الشكل كلمات محدودة وأسطر موزعة على خمس وستين صفحة؟! لا أرى ذلك وأستبعده.‏

نقرأ مقطعاً ومقطعين وثلاثة وعشرة وأكثر وأكثر وكل هذه (المقطوعات) أو (السونيتات) بلا عناوين، فنتحسّس أننا نقرأ لوناً وجنساً جديداً مغامراً ومغايراً من الشعر، وبسهولة وتلقائية وقناعة يستطيع قارئ وأكثر أن يقول: (هذه قصص قصيرة جداً) أراد الشاعر أن يمنحها (صفة الشعر وهويته)، عندها يتأمل الناقد في هذا القول فيجد فعلاً أنّ هذه (السونيتات) قد احتوت شروط القصة القصيرة جداً، وهي (التركيز والتكثيف والاقتصاد في قليل الأقل من الكلمات والموحيات والدلالات ومعها المفاجأة الصادمة التي تصل حدّ الإثارة وتحفيز مخيلة القارئ وهواجسه تجاه ما يقرأ ويتفاعل معه وينفعل به) فيبدو مقنعاً أننا أمام (قصص قصيرة جداً) ولكن وبمراجعة نقدية متأنية ليست سريعة الحكم وتعتمد الحساسية والذائقة القرائية المنتبهة والدقيقة، نجد أن الشاعر لم يهدف لكتابة (قصص قصيرة جداً) وما كانت هذه رسالته وهاجسه عندما يقول:‏

علمني (عريف الفصيل): يميناً أنظر، ربّما أراد أن يوهمني أنكِ غير موجودة في بيت القلب ص12، من صفات هذه المقطوعة (المفاجأة)-وهي من مستلزمات القصة القصيرة جدّاً، ولكن مسألة (القلب) سحبت (السونيتة) لصف شعر التفعيلة.. ومثلها (وحدهم السورياليون، يستطيعون أن يستوعبوا فوضى ارتمائك في ذاكرة الياسمين) ص41 ومثلها (عندما تراودني الكتابة، أتذكرك، فتعشب في راحتي أمنية ذابلة) ص26، هذا شعر وليس بقصة قصيرة جداً، ومثلها (عندما أمطرت السماء، عطراً وموسيقى، نبت الشاعر ص16 وهذا أيضاً شعر وليس بقصة قصيرة جداً، ومثلها (من فروة هذا البدوي المتعب، تورق أحلام الصحراء) ص17 وأيضاً (أحلم أن أطوق، مثلما يطوّق نهر جزيرة خضراء أنجبتها موجة عاشقة) ص53، وشبيه بذلك (ما بين الدمعة والدمعة، تتنفس آلاف الصلوات) ص23 هذا كله شعر ومثل ذلك كثير مما اكتنزته تلك (السونيتات) المكروسكوبية الوديعة، ومع هذا الاجتهاد فإنّ كثيراً من تلك (المقطوعات) حمل صفة وشرط (ق.ق.ج) ومثال لذلك (لم أنجح في الجغرافية، إلا بعد أن رسمت لحبنا خريطة بلا حدود) ص5، وأيضاً (هؤلاء، كيف لا ينجحون وأنفاسك تلون كراريسهم) وقل مثل ذلك عن (كل عناترة التاريخ خرافة، والشاهد أن الأرض تكررهم) ص20 ونضيف (لأنني يا طفلتي، مدجج بالأسئلة، أبحث عن قصيدة عنوانها: (علامة استفهام) ص9، وغير هذا كثير إذا أردنا التدقيق في النصوص لأدخلناها في (خانة ق.ق.ج)، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة فالفارق بين الشعر والقصة والنصّ في زمن التمازج والتناغم بين الأجناس الأدبية وفي (رذاذ) يكاد لا يبين أحياناً وحدوده أضحت أضعف من شعرة رقيقة دقيقة، لذا كان الشاعر حذراً وواقعياً عندما لم (يحدّد) تسمية لمجموعته وحتى عناوين لقصائده، وهي فعلاً كذلك، وأستطيع القول إنني خرجت بنتيجة أن الشاعر بهذا المزج الجميل غير المتعّسف بين الأجناس الأدبية المختلفة قد أوجد (شيئاً) ربما لم يجد ـ ونحن معه ـ ضرورة لتسميته بوضوح أو حتى لإعطائه هوّية محدّدة تطوقه وتقيده وتخنقه بأسوار صارمة مغلقة..‏

مهارة الشاعر عمر عنّاز واستبطانه العميق لدلالات الحياة بشرياً ومادياً وروحيّاً ـ كإنسان وشاعر ـ مع موجعات الحوادث والأحداث وحيرة تفسير غوامض أحزان الدنيا وفي وقائعها اليومية التائهة الأليمة، مع تميّزه بمحبة وعشق التراث الحضاري العريق وتقنياته التي ظلت مضيئة عبر العصور، مضافاً إليها هذا الجديد من الشعر في أشكاله ومضامينه وصوره الفنية، هو الذي أضاف لمنجزه الشعري وبموهبته الفطرية غير المصنوعة والمتكلفة، هذا الإبداع الجديد، وهذه المهارة في تلاوين (رذاذ) التي يمكن القول عنها وبكل ثقة وبلا تردد إنها إضافة حيوية خلاقة بنبضها الشعري جديرة باهتمام القراء والتأمل.‏

وجدير أكثر بأن يتعامل معها النقاد بكل حرص وعناية وجدية وقبول لهذا الشكل الجديد، دون إشغال أنفسهم ـ نقدياً ـ لإيجاد تسمية مميزة له أو اضطرارهم لتقنية ضمن أطر جامدة، فما منحه الشاعر لقصائده من مديات مفتوحة غير المنغلقة، ومع هذه الانسيابية المستحبة التي ربما همست لعيون القراء وعقولهم ومشاعرهم وضمائرهم ـ حتى المخفي المستور منها ـ برسائل عذبة الصدق شيقة في همس التواصل والتوصيل لنفوس القراء، وفي هذا ما يكفي!‏

· جريدة الاسبوع الادبي العدد 1055 تاريخ 12/5/2007

في رثاء الزميل الشاعر العراقي حاتم حسام الدين

في الساعة صفر من عمر هذا الزمن الفوضى تندلق من بين أيدينا قصيدة دامعة تختزل حزن العراق ومآسيه وعذاباته اللامتناهية ¡ تنسرب من بين أصابع الشعر تنهيدة ملوّنة بالأسى والشكوى .. تذوب بين مفردات الوجع حكاية عمرها مسلّة من عوز وترقب وانتظار..

هكذا دونما إذن مسبق يلملم الغيم أحلامه الوردية ويمضي بصمت نحو متاهته الأخيرة بعد أن ضاقت به الآفاق واكفهرت وبدت بلا مواعد لغيث محتمل فهل استبدت بك الدروب لتلفظك لأنك التزمت قواعد المرور رغبا ورهبا ¡ هل ملّتك هذه الشوارع الكئيبة التي أصبحت ملاذا لايضاهى لاحتضان الجوعى والبائسين .

سنين وأنت تحمل حقيبتك متنقلا بين بغداد والموصل ¡ حقيبتك الملأى بكل شيء الا النقود ربما لأنها – النقود – حقيقة زائفة أو ربما لأن أناملك كانت تخشى التيبس بفعل خشونة الدنانير .

راحل تحمل حقيبتك التي تضم كل بروتوكولات الشعر الحديث المشاكسة لكل طروحات العصر بدء من السياب وانتهاء بصالح مجيد عيسى .

فهل أستطيع أن أحصي عدد أنفاسك الحيرى وانشغالك بترتيب تفاصيل يوم جديد يحمل في طياته تحديات لاتنتهي بالضرورة ¿!!

حاتم حسام الدين..

أيها الشاعر الحزين ¡ أيها الفيلسوف الذي أدمن انتعال أرصفة اللاجدوى ¡ أيها الملاك الذي يحلق بجناح يتيم ¡ أيها المفلس الا من كلمته المبدعة ياااااااااااااااااااااااااااااااااااه

كم هي زئبقية هذه اللحظات التي انفرطت حبات عقد بين صخور هذا الزمن الشاحب الملامح¡ خبرني لمَ ياصديقي استبقت الخطى الى حيث لا عودة ¡ هل نسيت أن بيننا مشاريع لم تكتمل بعد ¡ مشاريع كنّا بذرناها على أرض مبتلة بالقوافي¡ هل تذكر ياصديقي البرئ مثل غيمة بيضاء ¡ أتذكرك وأنت تدوِّن بأناملك الملونة أسماء من تقترح أن يقرأوا في مهرجان أبي تمام الذي اخترتك لتكون رفيقي في تنظيمه والاعداد له وذاك شرف لي¡ أتذكرك كيف كنت تستنطقني لاقترح عليك فترفض بكل ما أوتيت من نرجسية بل فروسية تليق بك¡ حينها كنت أتحرى الكم لأرضي مااستطعت من الشعراء وفق مايحتمه علي السياق التنظيمي والاجتماعي بينما كنت أنت تركز على – النوع – تحت مبرر ( لامجاملة على حساب الشعر رشح من تراه مبدعا ياعمر ولايهمك زعل الأخرين ) كم توسلتك أن لاتحرجني وأعترف أنني لم أكن أقدر أن أفرض عليك رأيا الا بدافع المحبة ذاك لأنني كنت مدركا تماما أنني أقف أمام قامة شعرية تنحني القصائد امامها على الركبتين لتصلي في حضرة الإبداع¡ كنت أعلم مدى إخلاصك وتفانيك تجاه الكلمة التي منحتها زهرة عمرك ¡ كنت أعلم مدى بغضك لكل المقاييس المؤسساتية التي حالت دون تحقيق طموحك في ابتناء مشروع ابداعي فذ.

نعم ياصديقي ¡ ماتزال أوراق مداولاتنا التحضيرية ندية بأنفاسك وانفعالاتك فكيف سأكمل هذا النص المفتوح وبأيما لغة أتهجأ مانثرته على بياض الورقة من أحرف مجنحة ..

ليل طلوعك¡ ظلك الأشجار… فالام تركض والدوار مدارُ هذي عيونك قُطِّعت نظراتها… وتيبست في مقلتيك النارُ

نعم يا أبا أحلى ¡

بهذا الأشتعال المهول وقبل أكثر من عقد من زمن الإحتراق هذا تطلق احتجاجك بوجه كل ماهو قبيح ومشوّه ¡ تصرخ في فضاء مطلق مؤكدا أن الصوت مادة لاتفنى إن كان منبعثا من حنجرة مبدعة جرّحها يباس الفلافل ولوّنها دخان السومر ( كنك سايز ) وطن من صراخ أصم ¡ هكذا كنت تركض وسط دوامة من حريق لاينطفئ أبا أحلى ¡ أي وجع يلهب في عروقي وأنا أتنفسك ذكرى بعد أن كنت أعيشك قصيدة متقدة بما تحتويه من وهج الحقيقة ¡ أي لوعة .. أي غصة هذي التي أتعثر بها وأنا أمسك برذاذ كلماتك المدهشة وأنت تفتش بين طيّات آخر ماكتبت ُأنا التلميذ والأخ الصغير ¡ توبخني بمحبة عندما تمر ببيت لايرضيك او قافية تحسها مقحمة مشيرا بقلمك على مايعجبك وفق فلسفة اثمنها وإن كنت غير قابل بها أحيانا ¡ ذاك لأني وأكرر القول كنت أحسني أمام قامة شعرية باسقة¡ وماذا بعد أيها المتشظي وسط جوانحنا ¡ أيّ شريط موجع من ذكريات يمر في مخيلتي الآن ¡ على منبر الشعر قدمتك لأكثر من مرّة وكنت تفضل أن تكون في مقدمة الشعراء قراءة وكنت أفهم اصراراك وانفعالك المبني على استحقاق مشرف ¡ يتفضل الآن الشاعر ” حاتم حسام الدين ” لقراءة نصه… ويبتدأ أنهمارك الحزين الموجع الباحث عن قبس من نور وسط ظلماء موحشة¡ كنت تملؤني شعرا وزهوا وكبرياء وأنا أستمع لكلماتك المتدفقة فيضا من مشاعر واحاسيس مخضبة بالرماد ¡ يتفضل الشاعر ” حاتم حسام الدين ” لقراءه قصيدته التي تخبر بامتلاء جوانحه وخواء جيوبه المثقوبة ¡ وأعترف أنني حين كنت أحرم من القراءة لانهماكي بتقديم الشعراء كنت في ذات الوقت أعزي نفسي بأني سأسمع شعرا ” حاتميا ” يمنح المنبر فرصة الإنعتاق .

وعلى مقربة من جادة الشعر كنّا نتندر بمواقفك وطرائفك وبهلوانياتك الممتعة التي لاتنتهي الا بضحكة ملء فم الزمان¡ ربما لهذا تأخرنا في فهم لعبتك الأخيرة التي ظننا أنها بهلوانية جديدة وفق الفلسفة الحاتمية التي عهدناها تقطر براءة وعذوبة .

لم نكن نعلم أنك كنت تعد لرحيل أبدي لابتكار نص مفتوح على كل إحتمالات التأويل .

اليوم أقترف رثاءك المبكر¡ فأي لوعة ياصديقي أن أذيبني على هامش احتراقك يا أيها الحامل حقيبته الحزينة بحثا عن خبر يساهم في رتق أحلامه وتوفير لقمة ذابلة لطفلة زاهرة أسمها – أحلى – تنتظر قدومك المعبأ بالخسارات .

ها أنت تدوِّن ذكراك خبرا تتناقله الصحف بالمجان ولعلها فلسفة أخرى ¡ يااااااااااااه صحف كثيرة كثيرة ياللعجب كل هذه الصحف لم تستطع أن تسد رمق طفل يقترف الكتابة بكل براءة وشفافية واخلاص ¡ كل هذه الصحف والمؤسسات والاتحادات والمنظمات لم تقدر أن تنتشل شاعرا عذبا من هاوية الحرمان التي كنّا نراه ينزلق إليها بكل فروسية ¡ فأي واقع عاهر هذا .

ولأننا نحبك – ابا أحلى – سنظل ننتظرك

الجمعة موعدنا ياصديقي وكالعادة سننتظرك في مقهى القدس في زاوية مليئة بالدخان والأحلام المؤجلة ¡ سننتظرك تجيء الينا وجبينك ينضح عرقا في زمن لايندى له جبين سننتظرك تجالسنا الجمعة مبعثرا يديك بين سيكارتك واستكان الشاي الذي لاتعرف من سيدفع ثمنه فليس ذلك بمأزق مقارنة بما جابهتك به الايام الماضية .

تلسعني بكلمة فأضحك لأني أعرف نقاء سريرتك الفاضحة وادرك شفافيتك المفرطة في هذا الزمن المظلم سينتظرك الجميع ¡ المهندس بعمودياته وعمر حماد بتعليقاته عن المسابقات واخر اخبار الرواتب والأمير باسنانه الملصقة عنوة وكرم بسفسطائياته المدهشة وبيات بفكاهاته والبدراني يضحك ملء شدقيه ونوزاد يعمل على كشف مؤامراتك التي يعرف تفاصيلها جيدا واحمد الطائي الذي يستنزف سجائرك بكل ثعلبية ومازلت تفاوضه على كتاب استعاره منك قبل نصف قرن ومازن عبد الجبار يريد أن تنسى موقفك الفاضح معه عندما اقرضته حذاءك ليعتلي منبر الشعر ¡ ثم فجأة يدهمنا ” صديق الصدوي ” وتدعونا الى المشاركة في إنجاز مرتجلة ” صديقية ” نحاول أن نهرب عبرها الى فضاء منفسح الأرجاء بعد أن ضاقت بنا الدنيا وهناك على الضفة الأخرى أصدقاء يتسمعون هسيس خطواتك القادمة من المجهول ربما ¡ سيشتاقك صالح مجيد الذي تعلم كل خفاياه وخربشاته ومقدار الدنانير التي في جيبه الخاوي دوما ¡ وسيشتاقك بشار عبد الله الذي يستطيع أي مخلوق أن يشم رائحة حبك في قلبه ورعد فاضل وجاسم خلف وشفاء العمري وهو يصارعك جدليا على طاولة مقفلة والجميع الجميع سينتظرونك حتى عمال مقهى الكرم الذين ادمنوك مثل قمصانهم الملونة .

نعم ياصديقي

كنت أعلم أن تريد الهروب الى زمن آخر .

ولكن أما كان في الوقت متسع لنكمل مابدأناه

خجلاً يتعرّق البرتقال غنائيات الشعر العربي.

أنور عبد العزيز

هو كتاب من كتب (دبي الثقافيّة) الصادر عن مجلّة (دبي الثقافيّة) والفائز بالجائزة الاولى والمركز الاول للجائزة في دورتها السادسة لسنة 2008 – 2009 ومن ضرورات التقديم ان نذكر أن أعضاء لجنة التحكيم لجائزة الشعر هم: أحمد عبد المعطي حجازي (رئيساً) ود. صالح هويدي (عضواً) و د. علي بن تميم (عضواً)، أما المنسّق العام للجائزة فهو الكاتب والصحفي ومدير التحرير لمجلة دبي الثقافيّة ومما قاله ناصر عراق في تقديمه للديوان:

الشاعر عمر عنّاز – وكما في نشرياته السابقة – هو ذلك المتجذّر ببحور عبقري البصرة : الفنان والموسيقي الكبير الخليل بن أحمد الفراهيدي مع كل محاولات التجديد ومتطلبات تقنيات ولغة العصر.. ويظل واحداً من ورثة ذلك التراث الشعري الشامخ لشعراء الجاهلية وللمتنبي وأبي تمام وأبي فراس الحمداني والشريف الرضي والجواهري الكبير والسيّاب ونازك الملائكة والبياتي والبردوني وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور ونزار قباني وسعدي يوسف وبلند الحيدري وعبدالعزيز المقالح وحسب الشيخ جعفر وغيرهم، في اعتزازهم بالمنجز الشعري القديم وعدم التنكّر له وباستلهام تلك الاوزان المدروسة برهافة ووعي وحسّ الموسيقي المتفاعل مع النغم والحياة …

عمر عنّاز – ومنذ بداياته – كان منتبهاً وواعياً لمنجزه الشعري حريصاً على التواصل مع ابداع الاولين وعدم التقاطع معهم الا فيما يفرضه العصر ولغة العصر وضرورات التجاوز والتحديث، أما حكاية النبر والموسيقى الداخلية والنغم الخفيّ عند من تجاوزوا حتى الشعر الحر وصولا لقصيدة النثر وشعرالتفعيلة وبإلغاء كل أوزان الفراهيدي اعتماداً على الهمس الداخلي للشعر فهي لم تجد صدى مؤثراً لديه، لأن غالبية هؤلاء – إلا الندرة النادرة منهم المتحسسة للنبر الداخلي – كانا يتخفّون وراء تلك الحكاية المفضوحة لتبرير تخبّطهم وعجز إمكانياتهم ولانقطاعهم شبه الكامل أو الكامل عن ذلك البناء الشعري الباذخ لامتهم وعبر عصور كثيرة، وهذا ما جعل رائدة كبيرة من دعاة الشعر الحرّ لأن تصاب بالرعب لما آلت إليه حال القصيدة العربية بدعوى الشعر الحرّ والانسلاخ نهائياً عن أوزان الخليل وموسيقاه والكل يعرف – النقاد والباحثون العرب من القدامى والمحدثين وحتى من المستعربين الأجانب: إن الموسيقى مسألة لازمة للشعر العربي وليس من السهولة التنكّر لها والعزوف عنها والتحرّر من ضروراتها، نازك الملائكة وبعد كل ذلك الحماس للتحديث والتجديد والتصرّف في بحور الخليل، وبعد كل تلك الثورة الشعرية التي ارتبطت باسمها، هالها ما آل الحال إليه من استغلال العاجزين والجهلة لطبيعة ما أقدمت عليه، فتراجعت في سنواتها الأخيرة عن كثير من تنظيراتها وطروحاتها الاولى حول (الشعر الحرّ) وقد صارت تتحسس – وبحزن كبير وندم – أن ما دعت إليه تصوره الآخرون أو أرادوه انفلاتاً وقطيعة ولو مع جزء من ذلك التراث الشعري العربي الزاخر بتلاوين العطاء الإنساني وتجارب الحياة وما يعبّر عن تاريخ وحضارة أمّة لآلاف من السنين.. هي لم تفعل ذلك تراجعاً عن قناعة بضرورة التحديث، ولكن هالها– ومعها السياب والبياتي – أن تجد أن آلافاً من المتشاعرين جعلوا من ( دعوة الشعر الحر) وبعدها (قصيدة النثر أو الشعر المنثور وشعر التفعيلة) جوازاً فوضوياً لخربشات شعرية متهالكة متهافتة وزناً ولغةً وصوراً وتقاليد شعرية وبتجارب فجّة شحيحة العطاء لأبسط لوازم من يتجرّأ على قول الشعر مع أن هذا لم ينفِ وجود شعراء مبدعين – رغم قلّتهم – ممن صاروا كباراً في شاعريتهم ومع كل ألوان التجارب الشعرية المعاصرة وحتى للمغامرين ممن تطرّفوا في حكايات الحداثة والتحديث وفي تجريد الفانتازيا واللا معقول…

بعد هذا يمكن القول أنه ربّما كان لتمسّك الشاعر عمر عناز بأصوليات الشعر العربي وغنائياته وباسلوبيته المفعمة بالحيوية وبالتعبير عن هذا الحزن العام الذي غلب على الديوان مع أحقّية الشاعر بشيء من خصوصيات حياته التي لم تسلم أيضاً من طابع الحزن، ومع تلك القصائد التي يصعب الفصل فيها بين ما هو عام وخاص، وعندما تبدو عنده أن الحالة واحدة لا تقبل التجزئة…

وفي المحصّلة الاخيرة فإن هذا الديوان الإبداعي الفائز – بالاضافة لجماليات قصائده وثراء تعابيره الشعرية – قد جاء رداً مقنعاً على كثيرين ممن اتهموا الشعر العربي الموزون بأنه ليس غير أبيات مصفوفة مرصوفة ليس فيها غير الطنين والرنين، وإذا كان هذا الوصف قد انطبق – و لا يزال – على غير القادرين على الشعر – موزوناً أو غير موزون – وعلى العاجزين الطارئين على قول الشعر وحتى في أدنى مستوياته الفنيّة، فإنه – أي ديوان الشاعر عمر عنّاز – قد أكّد وأثبت بقدرات واضحة أن الشعر العربي ومن عصر الجاهلية حتى أيامنا هذه ومع العشرات من الشعراء العرب منذ مبدعي المعلقات وعلى مرّ العصور العربية : جاهلية وفي صدر الاسلام وأمويّة وعبّاسية وحتى في عهود السيطرة العثمانية والفترات المظلمة … استطاع هؤلاء الشعراء ان يؤكدوا أن أوزان الفراهيدي وبحوره لم تكن ابداً – إلا في مفاصل قليلة محدودة – عقبة أو عبئاً على الشعر وفي مختلف تجلياته الحياتية وقدراته على التوصيل وهم كانوا أشدّ حرصاً على الالتزام بموسيقاه، ولأن الموسيقى ظلّت وطيلة القرون لازمة من لوازم الشعر العربي، بل إنها هي التي ميّزت الشعر العربي عن سواه رغم عدم تخلي كل أشعار الدنيا وعند كل الشعوب عن شيء من أوزان الموسيقى كل على طريقته وتقاليد منظوماته، ولأن الموسيقى نبعت وخلقت مع البشر منذ أول هفهفات الشجر وغناء الطير ورفيف عيون الماء وصوت الشلالات وهدير الريح وصخب الرعد وضجيج الزوابع ووشوشات الغابات وعواصف الأنواء ونغمات الرمال في الصحاري المترامية ومنها الصحراء العربية الكبرى، وليست الارض فقط هي الموسيقى، فكل الاكوان في تناغم موسيقي مثير…

إحدى وعشرون قصيدة في عشر ومائة صفحة من الحجم المتوسط وبتصميم جميل يناسب درجة الفوز الأولى… قد أكون انطباعياً وقد أكون انتقائياً ولكن للضرورة أحكام : (عُمُرٌ جاع، ولكن عندما وجد اللقمة، لم يلقَ فمه) ص11 (بدمي تعصف ريح صرصر، صوتها بعض صهيل الجمجمة، أعشب التاريخ في ذاكرتي، فتسورت سؤال العتمه، هو تاريخ مدمّى، مزّقت ذئبة الاوهام مني رُقُمَه) ص 13، وهذه الغنائية : (خذ مقلتي وانظر إليّا، واقرأ شحوبك في يديّا، وأتم لذاكرة القرنفل في دمي عرساً نديّا) (عسل القوافي جفّ في شفتي، فلا تعتب عليّا، فأنا احتمال بعثرته الريح، مجهول المحيّا، أسست جمهورية للمتعبين بمقلتيّ، وأقمت وجهك كعبة في خافقيّ، لأطوف فيّا) ص 24 . ومن حزن القصيدة : (أنا لا أفكّر في اقتراح قصيدة، ماذا سأكتب والمدى أقفال، ماذا سأكتب والبلاد مواسم، للموت فجّرها الأسى القتّال، لكن أفكر أن أصوغك غنوة، وعلى وجنتيك الشفيفة خال، يا أنت، يا عسل القصيدة، رشّش لهف التهجّي، فالحروف نبال)ص34. ومن الهمّ العام: (أنا كيف أزعم أن موصلي انطفت، والجامع النوريّ فيّ يكبّر، باشطابيا وقره سراي ونينوى، ومقام خضر الياس ضوع أخضر، هي بعض أنفاس العراق ترقرقت، فاذا الحضارات انبثاق مبهر) ص45.

ومن تيه الشاعر واضطرابه وضياعه: (أسير من طرق تعبى، الى طرق تعبى، الى طريق تعبى، الى، والى، مدائن من دخان طفن في جسدي) ص 48 هذا التكرار (للطرق التعبى) يقرّب للمتلقي حيرة الشاعر وذهوله ويأسه من العثور على طرق حياتية آمنة…

وعن حزن وطن النهرين نقرأ : (أوراق الهجر في عيوني حقلاً من بكاء، ان البكاء حقول، موجة دجلوية فزّزتني، أخبرتني أن الفرات عليل، أخبرتني بأن طرف المها قد خانه الجسر، والبلاد طلول، أخبرتني، وأخبرتني…) ص 56.

ومن ترانيم الوصف بروحيته الشعرية العذبة الشفيفة : (يا سقسقات الندى، والقلب بستان، يا شعر يا لبوة عذراء، تجفل في صدري، فتطفح وسع الروح غزلان، بمن أكنّيك والتعريف ملتبس، والأبجديات في كفيّ غلمان، بمن أكنيك كل المنشدين فم، في خاطر الناي، والتقويم أذان، يؤثثون محاريب الكلام هوى، كأنهم في مساء الشعر رهبان) ص 69 . ومن غزلياته: (عيناك تبحث في دمي عني، وفي غسقي ترف، وأنا يبعثرني حضوري، في مسائك، وهو كشف، الله من عبق الى شفتيك يا ليلاي، يهفو، البوح يولد من رحيق الصمت، ان اغراه وصف، ومواعد خضراء تغزلها الجداول، فهي رشف) ص 74. ومن ملامح للوجع العراقي نقرأ: (عبثاً أحاول ان أضيع حضارة الحزن القديم، لان قلبي دفتره ولأن ظلّك صاغ سنبلة الهوى، في مقلتيّ، تسورتك الانهر، لغة المرايا أنتَ، هسهسة الندى، وطن بأيتام العراق مؤطّر، وأنا انشطار وسط ذاكرة الأسى) ص 80 . ونفس الشاعر متوحد عندما يهيم بعشق الحبيبة وعشق الوطن… كلاهما عشق وحنين: (عصفورتي، يا من جدائلها، ذهب على الكتفين مندفق، لي خلف نافذة البلاد غد، غضّ الجفون، مشاكس نزق .. و (منذ ألف سوسنة بحقل يدي، وأصابعي بنداه تأتلق، كم مدهش أني أراوغني، لأتيه فيك، فأنت مفترق) ص 87 . وهو اذ يستنكر من يعتب على الهوى أو هواه يرد بقوله : (لماذا تصير الأمنيات عواهراً، ويصبح بعض الهمس في الحبّ معضلة، لأحلامنا الظمأى أغانٍ مؤجلة، تآكل منها الوقت، في صدر مزوله) ص91. ومن مكشوف البوح وبخصوصيته الشعرية ومن لذيذ القول : (أنا العراقيّ، شدّيني اليك، فقد توقّدت لهفة الاشعار في حدقي، وغمّس شفتي في فيك، إنّ بها، خمراً معتّقة منذ ألف محترق، يا – لاذقانيتي – والوقت منعرج، ما بين مفضٍ الى درب، ومنغلق، إني أتيتك، عمري سرب أسئلة، الشمس تنثرها في دفتر الأفق) ص 94. ومن قصيدة: (خجلاً يتعرّق البرتقال – عنوان الديوان – يمنح الشاعر روحه الهائمة أبعد مديات الشوق بخطاب مباشر للعشق يحمل في تجلياته صدق التعبير عن وهج المشاعر تجاه الحبيبة فيقول : (وهكذا أنت، عكس كل الفصول، تربكين التراتب في ذاكرة التهجّي، ايتها الوردية الوجنات تضامناً مع الربيع الذي أشتهيه، أيتها الشفيفة التي كلما تنهّدت، أوراق الكروم، وتعرّق البرتقال خجلاً، ربما لان للماء طعم القصيدة المدوّرة، ينمو عشب الكلام، على راحتيك، ربما لان للغيم نكهة الأقحوان،، يفيق الندى على امتداد ما تقولينه، وما لا تقولينه) ص96… هو العشق ذاته أيّاً كان الخطاب للوطن أو الحبيبة : ( أنا العاشق المكرّر في المرايا، شهقتي وطن، وتنهدي غابة من أنبياء، فكيف تلعثمت في شفتيك حروفاً، وأنت امتداد لكل اللغات، أيا امرأة من بلّور، لها نزق طفلة، وطعم جكليتة، أسرّك أنني كلما تغرغرت باسمك السكّري ـ تحطّ على شفتي الفراشات، فيرصع جفني كحل الملائك) ص 100 .

ومن القصيدة الاخيرة : (هكذا تنضح الاسئلة) نودّع لذائذ الحسّ الشعري عبر الديوان كلّه بهذه الخاتمة الرومانسية : (وها أنذا – منذ العشاء الاخير -، أفتّش في رغوة الحزن، عن بسمة راوغتني، واختبأت في صدف المرايا، افكر حين تدهمني رعشة المعنى، أن أتكاثف حد التلاشي، لأندسّ في حلزون الكلام، أفكر أن أنكمش بين السطور، وبين السطور، لأقتنص لحظة التشظّي على الورقة، فقد أخبرتني (النخلة) أن وراء الفواصل، تغفو البلاد ) هكذا اذن – وكما أكد لنا الشاعر في غالبية قصائده – أن البلاد هي المرتجى وهي وطن الروح واقعاً وشعراً…

صحيفة عمان – 17 مارس 2010

http://www.main.omandaily.om/node/10973

جماليــــــــات القـــــــول في فرائــــــــض متـــــــون عمـــــــر المطريـــــــة

اسماعيل ابراهيم عبد

تنتمي قصيدة مطر للشاعر عمر عناز إلى وحدات عرض افتراضية تتخذ من متون المطر شطر اتجاهها نحو قوليات جمالية مدركة كيان القول الحكائي مرة، والقول الحكائي الشعري مرة، إضافة إلى إنها تبرمج مصاغها البنائي وفق ثنيات تضاعيف ((متعددة الفهوم)).. ان فرائض العرض تستوجب الابتداء من المدخل.. ثم التوغل المستمر.

1 وحدة صياغة المدخل:

وهي بمثابة جملة فاصلة، موصلة، فاعلة في بنية الاستهلال… وهي إذ تقارب صورة المفتتح التقليدي، لكنها تنحو به علوا آخر تماماً حيث تجعل الافتتاح تقديماً أولياً لمصغر ملحمي يؤثث خاصية التقديم كبنية عرض سيمتد إلى داخل روحية القصيدة المفعمة بالحدثية والحركية… بهكذا توجه ندخل عالم (عمر عناز) الشعري ونحن نقبض على كيان (الاستشعارية) لمأثرة الشعر المغلقة بالأسئلة كي يصير الطلاق كلياً ونهائياً بين التقليد والمخالفة!.. ولأن هذا المدخل الاستفهامي هو مدخل غريب الى حد (ما) فقد أعطاه الشاعر دفعة جديدة لتحال الغرابة إلى جذى للتأمل، والانبهار بذات الجملة الاستفهامية، المكررة ثلاث مرات لـ (14) أربعة عشر سطراً وبتهكم واحد يتحمله السؤال من (أي)… ولأن الأجوبة ليست بذي هدف مباشر فأنها فتحت مجالاً لأسئلة اخرى مضمرة.

(من أي شباك تمد الشمس/ اذرعاً…) فتكون تكملة السؤال إجابة مضمرة لأسئلة أخرى، حيث يكون التهكم مبرراً للدخول في ذات الإحالة

(لتكنس ما ينث الغيم من عتب / قديم / من مطر؟). فهذا ليس جواباً وليس سؤالاً، وليس مدخلاً، بل هو تماهي مباشر للمضمر القصدي لذات (الشعري)…

والسؤال التالي سيكون مبتعداً عن الإحالة الأولى بدرجة أقسى من العتاب والتقريع والضياع (من أي ثقب في سماء الروح / يمكن ان تسيل الأمنيات / البيض / والانفاس تعثر بالفكر) فوجه الاضمار العمدي لإجابة الاستفهام ابهى من أسئلة التهكم حيث صار بيان غربة فلسفية ذاتية استشعارية، هي طبقة من ثقوب ، أولاها، ثقوب في سماء الروح . ثانيتها سيل الأمنيات. ثالثتها تعثر الأنفاس بالفكر…

وحيثما يكون التهكم إجابة للاستفهام الأول، والتفريغ الفلسفي إجابة الاستفهام الثاني فيقرر الشاعر جعل الإجابة والسؤال (ثالثة) ترنيمة لتكتيل نظام الأبصار (من أي زاوية بجمهورية – الوجع القديم – الم عطر طفولتي الأولى – لأنثره – على خد القمر) فالنص ساحة عرض أوجدت طبقة متراكمة من مخبؤات الإجابة، (وجع قديم، عطر طفولة، انتشار على خد القمر). وفيما كانت إجابات (أي) الالى: كنس ما ينث من الغيم، وكانت إجابة (أي) الثانية: سيل الأمنيات، والأنفاس التي تعثر بالفكر،.. فيعني ان السؤال الأول له إجابة واحدة والثاني له إجابتان مما يحيل إلى التصور بان السؤال الثالث ستكون له ثلاث إجابات.. وفعلاً فأن السؤل الثالث يتحمل الإجابات التالية: (الوجع القديم، الطفولة الأولى ، نثيرة خد القمر).. ورغم ان هذا الترتيب لم يكن مقصوداً لكنه أضاف ميزة للأستفهام، ان ينحرف عن التحفيز والإثارة إلى التعجب والإنارة والاستبصار..

وكآلية تحديد، شيئية، فان المتن السابق (اسئلة أي) والتي هي مأثرة لأسئلة الدخول، فان عناصر الإكمال القولي هي مجزوءات الطبيعة الصرف (شمس، غيم ، مطر، قمر) على افتراض ان عنوان القصيدة مطر يقترب من مثولاته في حركية القصيدة، لكن الاستثمار في (حقيقية الشعرية) جاء ليفيد درجة جديدة من جماليات الصياغة تلك هي فطرية الحنين للنشأة الأولى، (عتب قديم – أمنيات بيض – وجع قديم – طفولة أولى ) لتوازي مثيلاتها الأربع السابقة. وإذا كان هذا الاتساق لم يقصد لذاته فانه جاء متمماً لمأثورية الطفلي المتدفق العفوي للشعر!!

عند وصول القصيدة (خد القمر) تكون قد هيات أجواء القصد ان يتجه إلى الوحدة اللاحقة.

2. وحدة التمويل السردي:-

يبالغ الشاعر ليجعل هذه الوحدة رئيسية، لكنها ظلت الوحدة الصياغية الثانية، لأنها جزء من التكامل القصدي لثنى بناءاته القولية الصنائعية. ولأن المدخل يجعلها تتقعد ضمن شروط التنامي التدريجي..

عند التحقق من عناصر التمويل السردي سنجدها ثلاثة ممولات، (الترفيقية المستقرة ،والترفيقية التعاقبية ، والترفيقية المستمرة).

أ- الترفيقية المستقرة:

هي مجموعة المدركات الملموسة لمثول الوجود (الإنسا–طبيعية). فالتمحور حول الذوات (وطن ، ارض، مطر) يعتبر تمحوراً خيطياً خليطاً.. وهو في القصيدة نسيج المنظومة (وفي يدي حمامة انثى بلا – عش – بلا وطن – بلا ارض – … – بلا مطر، وما زالت نواقيس المحبة – تحت أضلاعي – تدق تدق) هذه التي تجعل عوامل الإنسا- طبيعة تبث ثبوتها وأزليتها في محتوى نفسي وروحي تريد ان تثب في وحدة سردية خالصة، لكنها، بسبب شاعريتها ظلت ممولاً لروابط مثيولوجية شبه أسطورية كيفها الشاعر كصيرورة في مساهم خلاق للإنضاج الانزياحي (الأخلاقي ، الروحي، التشييدي) بعمادية لفظة واحدة (بلا ، بلا ، بلا) المتميسمة بحمامة أضاعت عشها فضاع ناقوس المحبة (الإنسان) وفيما بعد سيفتض الشاعر عذرية جدلية أخرى تكمل أحدوثة (حمامة في اليد) بإتباعها بتعاقب حدثي ذهني تجسيدي وفق النموذجية اللاحقة!

ب- الترفيقية التعاقبية: تقع بين الذهني والتجسيدي، الوهمي والحقيقي في النصوص كما يأتي:

1- وهمي – ذهني: (كما أيقونة كسلى معلقة – بأهداف الوتر)

* تجسيدي – حقيقي: (الخيل قيل تشم رائحة السحابة – قبل ان تلد الغيوم صغارها)

1. وهمي – ذهني:

(شحب المساء وفي يدي حمامة أنثى)

* تجسيدي حقيقي:

(أنثى بلا عش، بلا وطن ، بلا ارض)

1. وهمي – ذهني

(وربما الشعراء أيضاً – يسمعون دبيب أنفاس – القصيدة قبل أن تأتي – مخضبة – معطرة – بأنفاس الزهر)

* تجسيدي حقيقي:

(لهف الحروف . وأنت – والطبشورة الاولى ورحلتي القديمة والمعلم)

1. وهمي – ذهني:

(الطعنة الخمسون في لحم الصلاة – ولم تسل للآن آيات الدعاء)

* تجسيدي – حقيقي

( يا أيها المملوء – أسئلة ملغزة – اما تعبت خطاك وهي تختم – صدر هذي الأرض)

وهكذا يستمر التعاقب بايجازات انتقالية كمظهر لقصيدة العنّاز تنوء بأحمال مترافقة من موجودات الظن والحس، صائغة لأحداث متداخلة لسرودات بؤرية التبطين بدءاً بـ(تمد الشم – اذرعها..) ثم تتوالى (الم عطر الطفولة – انثره على خد القمر)

(في يدي حمامة انثى..)

(ارتسمت على محيا الفتى ملامح – من كستناء)

(عمي خضر يقايض درهمي..)

إلى… آخر… الحادثة الشعرية السردية (ويسكب في يد الدنيا – أغان – من مطر)

حيث ان الأحداث تتوالى من رحم إلى آخر حتى عنق الضربة الأخيرة لكنها سرد نسيجي شعري، لا يسمح إلا بالومض القصصي الشفيف، واضعاً القص مصدر تمويل الشعر، وان الصياغة تفتقد الأفعال الحركية، للتشويق الزماني والمكاني، والمبرمجة لفكرة تتكامل بؤرتها الحكائية بالتوغل المتقدم في الجسد القولي، كما ان الانتقالات هي اصغر من حركية الفعل السردي في الروي القصصي، والمهم أيضاً إنها تفتقد أهم عناصر القص، الرؤى القصصية.. وبالتالي فان الصياغة اقرب الى الدراما الشعرية الصورية، بعيداً عن متممات الفضاء الدرامي الملحمي.. ومما يساعد على إحالة (السرد – اسطورياً) هو هذا الشد الصوفي لبناءات الأفعال، بأفاعيلها الحاملة للانفعال المتلذذ بالمطلق الجمالي لمثيولوجيا الأداء القصصي، المحتوي لنموذج نظم شعري خاص يخادع جسد القصيدة، يوزع على أطراف النسيج هنات ورحابة العلاقات الأخوية الوجدية. شعراً، وليس قصاً.

ج- الترفيقية المستمرة:

هي وحدة تبطينية مستمرة بدءاً من عنوان القصيدة حتى آخر الفاظها، تتبنى رؤى خاصة تجعل أنشودة المطر، رديفاً أسطورياً لأنشودة (عمر عناز) في تبعثرها القدري الذي يجعل قصيدة السياب ممولاً مصدرياً يتجه مع القصيدة، لا تتجه معه، فعمر جدد غرض ونظام ومظلة محتوى دلالات القصيدة السيابية بدمجها كلياً في غرضية (الغرض الأزلي – مطلق التصور الذهالي للشعر) وحررها من ارتباطها الزماني والمكاني لتصير حدثاً في مثيولوجيا، قيمة السياب الشعرية… وقد وجه إلى خطوة قراءة مغلوطة، امعاناً في (انزلاقة القارئ التوريطية). ففي حين قصيدة الحنين الريفية تحفل بالمطر كهم معيشي فأنها تحتوي حتماً على مفردات الطبيعة بجمالها واخطارها.. لكن هذا لتكوين قد أبدعه الشاعر تماماً اتكاءاً على موحيات انشودة المطر، في حين انتقل به ومنه الى هموم فنية، قرائية، عصرية.. فلسوف يضع القارئ، بعد مرحلة الاختبار هذه، في حالة نضج ووعي للمباغي الصياغية العليا، تلك هي ، دلالاتي الجملة والنسق، عبوراً من خلخلة أعراف السياب اللغوية، وصولاً إلى حالة تأجيج العلاقات اللغوية بتصعيد قدرة الجملة الانفرادية على خلخلة الدلالة الكلية للنسق، حيث اجترح لغته الثنائية، الباطن السيابي، والظاهر النسيجي، بعلاقات جديدة، مبنية على اثر، ظلال المعنى!..

ولسوف نركز (هم) القراءة، في هذه المرحلة، على التوازي، الترفيقي بين قصيدتي أنشودة المطر، و(مطر) ولسوف نعمد إلى قدرة القارئ على ملاحظة التقارب والتباعد بين القصيدتين، وقد تتدخل أحياناً، اذا ما تعتمت المواضيع الترفيقية بينهما، نأخذ نموذجية منتقاة.

انشودة المطر – مدخل:

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر،

او شرفتان راح ينأى عنهما القمر

قصيدة، مطر، للعناز: مدخل:

من أي شباك تمد الشمس اذرعها

لتكنس ما ينث الغيم من عتب قديم – من مطر

انشودة المطر: كأن اقواس السحاب تشرب الغيوم

وقطرة فقطرة تذوب في المطر

قصيدة، مطر، للعناز

دماك ناعوراً يعب تنهداً وتوجساً

ويسكب في يد الدنيا أغانٍ من مطر

فالافتراق هو رفقة مستمرة تستمد صوتها من مقاربات وزنية ودلالات معنى بعيد فمثلاً الاقواس التي تشرب الغيوم هي حركة أفق ودماء الناعور يعب التنهد هي سيول من ضياع من حركة وذوبان السحاب في المطر إجماع على التخلي من اللاانتماء.

وكذلك فالدم المسكوب اخيراً انتمى الى دنيا تغني المطر!! مع الفارق الكبير في التفريق الاجمالي لكلا القصيدتين

مثال آخر

انشودة المطر: وكركر الاطفال في عرائش الكروم

ودغدغت صمت العصافير على الشجر

انشودة المطر..

قصيدة، مطر، لعمر عناز: الم تخبرك النوارس عندما

خدشت انملها جبين الماء

فأرتسمت على محياه الفتى

ملامح – كستناء

لنتحقق من مضمور الصور الجمالية بالشكل التالي:

– النوارس / تخدش باناملها / جبين الماء

– دغدغت / صمت العصافير / أنشودة المطر

فالنوارس تخدش، وأنشودة المطر تدغدغ – الا نتلمس وجه اللعبة الجمالية على البعد والبون بين الصياغتين؟

ثم.. كركر الأطفال – بمقابل – خدشت أناملها

ثم.. عرائش الكروم – بمقابل – جبين الماء

وهكذا نلمس التقابل المخادع في عفويتها كوجوه للطبيعة ذات الجمال المطلق.. وهذا.. ما نعزوه للعناز في كونه سما بقصيدته عن التقليد باستغلال ثيمة المطر، كباطن فطري جمالي لا مسوغ سياسي كما أراد له السياب!!

وكذلك افترق الشعران في ثيمة الماء.. فقد وجهها العناز نحو أنفاذ الشعري في المثيولوجي في الإنساني الكائني الأولي للنمو والإخصاب والجمال..

فيما اوقف السياب ذلك على الخير المادي للبلاد كمعادل موضوع لايديولوجيا الاتجاه الفكري المهيمن على نظام القصيدة (انشودة المطر).

3- وحدة فروض المتن الاستعاري:

وهي وحدة استعارات ثلاثة فروض كتحريض جمالي مزمن في الذاكرة الجماعية لعموم التجمعات البشرية وهي:

أ- ثنائية الفناء والخلود:

يعمل كيانها القصيدي على محصلة البقاء الخالد للتكوين الاندثاثي كما في النص التالي:

(دماك ناعوراً –يعب تنهداً وتوجساً – ويسكب في يد الدنيا – اغان – من المطر)

ب- صائتية الصدى والهمس:

وفيها يصار الى نثيث الصدى كصوت حكائي هامس بالرغائب كأنه كينونة سرية كما في النص التالي:

(أما تعبت خطاك وهي تختم – صدر هذي الأرض – بياقوت العمر – مطر ، مطر) فالخطى تعطي صوتها بهمس يشبه حركة الإعلان في الختم… ولأجل ان يكون الإعلان هذا كينونة سرية هامسة جعل موازنها الدائم (الأسرار ياقوت العمر)… وجعل افصاص هذا الياقوت (مطرّ) المسكنة ليعطي قوة الثبوت المفعم بالحركة الهامسة الوجدية لشفرة المطر الدثيث الفطري للطبيعة!

ج- الذوب الكلي في البيئة:

وهي استعارة حركية مستمرة الانتقال من ظرف إلى آخر ولكنها تتقيد بمواثل موازاتية بين الكيان البشري والبيئي كما في النص التالي:

(لكان أنت خرافة تمشي على – قدمين في اللامستقر – الأرض أمك – كنت تمسكها لكي يقف – المكان)

فالبيئة، الأرض بدورانها اللامرئي.. تماهي خرافته التي تمد اليد، تمسك الأرض، تمنعها من الدوران ولكأن الشاعر صار طفلاً يمسك أمه.. ولكأنه أذاب نفسه كلياً في وجدان البيئة الكبرى وصار مركز الحركة والدوران وصاحب قرار التوقف والمشي الدوراني!

ــــــــــــــــــــــــ

* دراسة لقصيدة (مطر) لعمر عناز.

صحيفة طريق الشعب – العدد 21 السنة 75 الأحد 29 آب 2010

نبذة عن الشاعر عمر عناز

الشاعر عمر عناز

الشاعر عمر عناز


عمر عناز
شاعر وإعلامي
عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين
أمين الشؤون الثقافية في اتحاد أدباء الموصل
سكرتير تحرير وكالة أنباء الشعر
عضو هيئة تحرير مجلة المنتقى الثقافية

الجوائز والمشاركات :

– المركز الثاني في جائزة تراث الشعرية / الامارات 2004
– الجائزة الأولى في مهرجان الشعراء الشباب العرب التاسع عشر / سوريا 2008
– الجائزة الثانية في مسابقة ربيعة الرقي / مديرية الثقافة في الرقة/ سوريا 2008
– الوصول الى المراحل المتقدمة من مسابقة شاعر العرب
– المركز الثاني في مسابقة فرسان القوافي / الجزائر/ برعاية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة 2007
– حاصل على إشادة تميز في جائزة الشارقة للابداع 2008
– الترشح والمشاركة ضمن الــ 35 شاعرا في مسابقة أمير الشعراء – ابو ظبي 2009
– المركز الاول في جائزة دبي الثقافية – حقل الشعر- للعام 2009 عن ديوان شعر بعنوان ” خجلا يتعرّق البرتقال ”
– حظي بتكريم الجمعية العراقية لدعم الثقافة ضمن حفل اقيم في بغداد تحت عنوان ” أربعون نجما في سماء الثقافة العراقية ”
– شارك في العديد من المهرجانات والأيام الثقافية محليا ودوليا.
– نشر في العديد من الصحف والدوريات المحلية والدولية.

Newer entries »