الدكتورة نسيمة بوصلاح

وكالة أنباء الشعر/ حاورها: عمر عناز

كما تزدحم قسنطينة بجسورها التي تخترق الفضاءات محمولة على تاريخ من الزهو والكبرياء، تزدحم فضاءات ذاتها بامتدادات ثقافية مكتنزة ومدعمة بعلمية تقوم على رؤية ثاقبة للسطور وماورائها، وفيما يتطابق الكثيرون في زحمة الاشتغال الفني تجتهد هي في ارتسام تفردها برهانات مميزة تألتف بقدر ماتختلف، يتهمها البعض بغواية المشاكسات الأدبية وتتهم الكثيرين باجترارهم للقديم وعدم توافقهم مع الجديد ، إنها الشاعرة والباحثة الأكاديمية الجزائرية الدكتورة نسيمة بوصلاح التي التقتها وكالة أنباء الشعر وكان هذا الحوار..

-اعلنت مغادرتك القصيدة العمودية رغم إجادتك .. ما السبب؟

أولا أنا لم أعلن هذا، وها أنا ذي أعلنه بعد سؤالك، أما عن الأسباب فهي أسباب تقنية محضة، وهي تخصني وتلزمني وحدي ، ولا أريد أن يفهم من كلامي أنني أتهجم على العمود وأصحابه، إلا أنني مللت تمارين الخط، الكتابة على العمود تشبه كثيرا تلك النقاط التي كانت ترسمها معلمتي على كراس الخط، ويكون علي أن أصل بينها بخط متواصل كي اكتب حرفا أو كلمة أو جملة. لا أريد نقاطا ولا مساطر ولا أدوات قياس.. لااريد قوالب جاهزة كقوالب الجبس التي يتسلى الأطفال بتلوينها ويكتشفون بعدها أنهم وإن تعددت ألوانهم لونوا القالب ذاته، كان للعمود في تاريخ الشعر العربي أسبابه، ومنها كون الشفوية أسبغت سيطرتها شبه الكلية على طريقة التداول، سيكون عيبا على من يحيا في 2011 ألا يفكر في استغلال كل ما أتاحته التقنية من وسائل تصلح حتما لإفراز نص مختلف.

-لكن التقنية التي تتحدثين عنها تبدلت من زمن لزمن وبقي العمود محافظا على حضوره بقوة .. ماتعليقك؟

للأسف أبرر هذا بسوء استخدام التقنية؛ بمعنى أوضح، المنجز النصي الذي أنتجه شعراء ما قبل الطباعة كان لا بد له أن يختلف عن ذلك الذي أنتج في مرحلة ما بعد الطباعة، والمفروض كذلك أن يختلف هذا الأخير عما ينتج بعد الكمبيوتر، أن نصرّ على أن نكتب بالكمبيوتر القالب الشعري ذاته الذي أنتجه المهلهل فهذا يعني أننا قاصرون فقط لا غير، الأمر يشبه أن تمتلك موبايلا من الجيل الرابع ومع هذا تصر على أن تقوم فقط بإرسال واستقبال المكالمات منه كما لو أنك تستعمل الهاتف الأرضي ذي العجلة الدوارة.

-تقولين باستنفاد مفردات عربية لجدوى حضورها المعاصر رغم انها مفردات اعتمدها المقدس بوصفه أعلى قيمة بلاغية .. ألا يعد هذا تقاطعا مع سمو المقدس؟

في الحقيقة كلمة استنفاد تشعرني وكأنني أطالب بتطهير عرقي للمفردات، الأمر ليس كذلك، أنا أدعو فقط بأن نكتب بلغة حياتنا، الفصام اللغوي الذي يصر عليه الشعراء هو ما يجعل الناس تنفر من الشعر بل وتتخذ من شخصية الشاعر مادة خصبة للتنكيت، وأنت تعرف أن اللغة كائن حي له اجتماعيته الخاصة فكما انه ليس مقبولا اجتماعيا بأن تطلع على الناس وأنت تلبس أزياء الغابرين، كذلك أرى أنه ليس مقبولا أن نطلع على الناس ونحن نتحدث بلغة تحتاج إلى لسان العرب وتاج العروس والمعجم الوسيط فقط كي نستطيع تخطي المعضلات المعجمية وكون هذه المفردات وردت في القرآن أمر لا يشكل بالنسبة إلي أدنى عائق في استبعادها من معجمي الشعري مادامت غريبة على الحياة، ذلك أنني لا أعتبر الشعر شعيرة دينية على كل حال.

-الشعر غنائي في معظمه ومغادرتك أطر القصيدة العمودية يفقدك فرصة أن تغنى قصائدك الجديدة.. وتعطل علاقتها مع ناصري الشعر العمودي غنائيا أمثال كاظم الساهر وماجدة الرومي وغيرهما.. بم تردين؟

الشعرُ شعرٌ والغناءُ غناءُ، لكن العرب قديما أصرت على أن تجعل من الغناء مضمارا للشعر، ذلك أن لم تكن هناك من وسيلة للشاعر إلا لسانه، ولا من وسيلة للمغني إلا صوته، بوسع الشعر الآن أن يجترح له مضامير أخرى غير الأغنية والتي هي في الحقيقة، تجربة مكرورة على مدار الشعر العربي حوالي سبعين مليون مرة إن لم تكن أكثر، أما مسالة أن أحرم نفسي من متعة أن يغني لي مطربون فهي وإن كانت الفكرة ظريفة في ذاتها ومسيلة للعاب الكثيرين من الشَعَرَة، إلا أنني لست مستعدة لتغيير وعيي الكتابي وكل هواجسي التجريبية من أجل أن يغني لي أحدهم، الأمر ليس مغريا لي، ولا أعتقد انه سيزيد من شاعريتي أو ينقص،

ثم إنني ألاحظ في عصرنا خفيف الدم هذا، أن واحدة مثل أليسا صارت ناقدة، وتتجرأ وتطلق أحكاما معيارية بكل ثقة في النفس اسم الله عليها، وتقول مثلا في برنامج على الأم بي سي أن سهام الشعشاع أحسن من كتبت شعر في تاريخ الشعر العربي من النساء، وهنا افتح قوسا كي أسال لمن قرأت أليسا من الشاعرات، إنه السخف وقلة الحياء الإعلامي التي تسلط علينا مثل هؤلاء فيصبح المغني الذي يرفع المنصوب وينصب المرفوع في أغانيه يزكي على الشعر فلان وعلان.

-كنت من المتابعين لحادثة سرقة شعرية تبادلت فيها الاتهام الشاعرتان المغربية حليمة الإسماعيلي والجزائرية سمية محنش، بوصفك متخصصة في الأدب ومشتغلة في مشهديته.. ماالتصور الذي خرجت به في هذا الشأن؟

أعتقد أن السؤال كبير جدا جدا على حادثة صغيرة من ذلك النوع، إذ إن الأمر لم يتعد مجرد نقاشات فيسبوكية تبادلناها حول تظلم كلا الأختين من الثانية، وحاولنا رفقة أصدقاء على الصفحة أن نكشف الغش من خلال ملاحظات انصبت على اللغة وزحزحة المفردات من مكانها وبناء الجمل، أما أن تطلب مني ردا على الموضوع بوصفي متخصصة في الأدب ومشهديته ، فسأقول لك إن النص في حد ذاته ليس مثيرا للعاب السرقة، ولو وجدته واقعا على الطريق لما التقطته هكذا مجانا ومن دون متابعات، هو تمرين شبه رديء على الكتابة يعكس ابتدائية صاحبته، وقلة ذوق سارقته أيا كانت الصاحبة والسارقة.

-أنت ناشطة كبيرة في الفيسبوك.. هل وفرت لك هذه التقنية الحديثة ان تستقرئي ذات الشاعر العربي ونفسيته عبر سلوك لمسته .. خصوصا ان المجتمع يعد الشاعر نموذجا لكل رقي؟

في الحقيقة دخلت الفيس بوك قبل ثلاث سنوات بدعوة من الشاعرة العراقية منال الشيخ، والحق أنه على مستوى التقنية فضاء أكثر من رائع للتواصل ونشر المعلومة، ولكنه على المستوى الإنساني كان كاشفا لعورات الكثير الكثير من المتعاطين للشأن الثقافي والكتابي بشكل خاص، يبدو أن الأفضية الثقافية الافتراضية لم تعلم بعض الأسماء أن تلبس الأقنعة والبدل الرسمية التي تعودت أن تلبسها قبل خروجها للأفضية الثقافية الواقعية، ويبدو أن اتصال الواحد منهم من جهازه المحمول في غرفة نومه يجعله يسرب عريه بشكل ما ودونما وعي إلى الشارع الافتراضي العام، والحقيقة أن كثيرا من الوجوه التي أظهر الفيسبوك عريها وجوه بشعة جدا للأسف، إن الفيس بوك داعم قوي لنظرية فرويد في كون الكتاب فئة مكبوتة مع تفادي التعميم طبعا.

-لعلك تتفقين معي في شيوع ظاهرة تصدر الصور الشخصية نصف العارية لنصوص بعض الكاتبات.. هل هي عتبة جديدة للنص كما العنوان .. أم ماذا؟

في الحقيقة العملية ابتدأت باللفظ وانتهت عند الصورة، هؤلاء العراة رجالا ونساء وما بينهما مارسوا أول ما مارسوا العري اللفظي بمفهومه المسف الخالي من الحياء، لا بمفهومه الشفيف، ولما لم ينالوا ما توقعوه من أنهم سيكسرون الدنيا، قرروا أن يعوضوا العري اللفظي بعري صوري ، من باب يسروا ولا تعسروا، يعني عوض أن يلهث القارئ من سطر إلى سطر كي يرسم صورة عارية وبذيئة في النهاية، اختصرت عليه الكاتبات خصوصا المسألة واضعات صورهن المسفة كنوع من أنواع وسائل الإيضاح فقط لا غير، وسائل إيضاح كتلك التي نستعملها في دروس التشريح مثلا مثلا.

-في حوار معه.. يؤكد عبد الواحد لؤلؤة عدم وجود ناقد عربي منذ القرن الرابع الهجري.. ماتعليقك؟

في الحقيقة هذا رأي سديد ورشيد وواع، ومحترم، ولطالما قلت الشيء ذاته، ولطالما قلت إن النقد العربي توقف مع الجرجاني وحازم القرطاجني ومن دار في فلكهما الزمني. نحن لا نزال لا نفرق بين محاولات العرب المعاصرة لقراءة النصوص العربية وفق آليات ومناهج أنتجت في الغرب، وبين أن ينتج من نطلق عليهم تجاوزا نقادا عربا نظرية نقدية عربية خالصة تستند إلى خلفية فكرية وفلسفية عربية بحتة، لقد بلغ الإفلاس بالنقد العربي حد بعض المشتغلين بهذا الحقل في المغرب العربي يجاهرون أن نظرية ” التشاكل” مثلا لم يشر إليها قبلهم أحد لا في شرق البلاد ولا في غرب، كما ورد على لسان أحدهم في الصفحة الأولى لجريدة الخليج. لقد وصلنا الى مرحلة من الإفلاس أصبحنا فيها نبيع بالونات الهواء لبعضنا البعض والله المستعان.

-يقول الدكتور صلاح فضل أن النظرية النقدية ملك مشاع للإنسانية وليس بالضرورة أن نمتلك نظرية نقد عربية .. ماقولك؟

رائع جدا لكن هناك فروقا بين من يصنع الكمبيوتر ومن يستهلكه. النظرية النقدية ليست مجرد درس يحفظ ويطبق وينتهي الموضوع، هناك إشكال أول هو أن هذه النظريات غير بريئة في مجملها، أي أنها ترتكز على خلفيات فلسفية غير تلك التي ينطلق منها الفكر العربي الإسلامي تجد نظرية في ظاهرها لسانية لغوية بحتة لكنها تعود في جذورها للفكر المسيحي الإغريقي من حيث ارتكازها على الثنائيات مثلا، هناك نظريات تبدو في ظاهرها سيميائية خالقة لكنها تستقي أسسها من الفلسفة الهيجلية التي تؤمن بالتثليث، في الحقيقة إن قولا كالمذكور اعلاه، يجعلني أتخيل أن النظرية النقدية هي عبارة عن دواء السرطان لا يهم من صنعه ما دام أن كل البشر سيستفيدون منه، أنا آسفة ان أسبب صدمة لمثل هذا التفكير فجلّ ما ينتجه العرب هو نظريات نابعة من ذهنيات الغرب، هذا إشكال أول الإشكال الثاني لنفترض أن هذه النظريات بريئة ومسالمة شأنها شأن دواء السرطان كما سبق وأن ذكرت، الذي لا يفهمه العرب، هو أن لهذه النظرية ادوات إجرائية، ومصانع فكر، لماذا يصر العربي على أن يقف موقف الأبله السلبي، يندهش عندما ينفخ الغربي بالونه، ويبتئس وهو يفجره أمام عينيه؟ ما يحدث في الغرب هو ما أسميه الحراك النقدي الحقيقي، هناك لهو حقيقي بالأفكار، والمفكر الأصيل هو الذي يصنع الفكرة كي يفجرها فيما بعد لا لكي يؤلهها ويعتبرها إرثا إنسانيا صالحا للاقتسام، أعود لمسالة الكمبيوتر كي أدلل على اننا نصر على ان نكون أمة مستهلكة حتى في مجال النقد، وأمة تابعة حتى في كيفية تذوقها للنص الأدبي، منذ الرومانسية والكلاسيكية ونحن نتلقى النصوص بمعايير الغرب، الذي يحكم سيطرته على كل شيء، وإن كانت النظرية النقدية هي إرث إنساني فلست سعيدة بهذا الإرث الذي يجعلني أحيل مادتي الرمادية على التقاعد، أقول قولي هذا واستغفر الله لي وله.

-شاركت في تنشيط الكثير من الفعاليات الثقافية في الجزائر من خلال عملك في روابط وجمعيات ثقافية.. كيف تنظرين الى جدوى هكذا تجمعات ؟

باختصار ودون مقدمات لبقة، بعد كل هذا الماراثون أيقنت أن الكتابة فعل فردي يمارس بعيدا عن غباء القطعان وغثائهم.

-يقول البعض عنك إنك ” غاوية مشاكل ” ولاتتوانين في دخول صدامات مع الكثيرين.. ماتعليقك؟

في الحقيقة لست غاوية مشاكل ولكن فقط ليس على رأسي بطحة لكي أحسس عليها وأحب أن أصرف للمتطاولين والمدعين كاش، الذين لا يقولون للأعور أنت أعور في وجهه قد يكونون عورا أيضا لذلك إثارة المشاكل بالنسبة إليهم هي نوع من البصاق إلى أعلى. ولكن لا أخفيك أنني في الآونة الأخيرة تركت تلك المياه الآسنة لقدرها ولم أعد أخوض فيها، أنا شاعرة قدّر لي كما لغيري من الحقيقيين أن نجد في طريقنا الكثير من حاويات الزبالة، وليس من الحكمة أن ننصرف عن الشعر لكي نعين عمال البلدية على كل حال.

-عرفناك شاعرة وباحثة أكاديمية.. اتجهت مؤخرا للعمل في قناة ” صانعو القرار ” ماذا تحدثينا عن هذا التوجه الجديد لنسيمة بوصلاح؟

الشعر يبقى جوهري الخبيء دائما ، أما البحث فهو مهنتي التي مارستها ولا أزال حاليا وهي مسماي الوظيفي في إدارة التراث بالشارقة، أما عن تعاوني مع صانعو القرار فجاء فضاء للمارسة فعل ثقافي حواري أتمنى أن يطلع في صورة تليق بنسيمة بوصلاح.

-نلحظ غالبا توجه الكثير من الأدباء الى ولوج ميدان النقد الأدبي دون تخصصية .. هل هو تفوق في قدرات الأديب أم موضة أم ماذا؟

والله لا ألوم كل من تسول له نفسه فعل ذلك، أنا ألوم الذين صرفت عليهم الجامعات العربية من أجل أن يكونوا نقادا ولم يفعلوا بل تحولوا إلى مرتزقة، يسعرون المقدمات التي يكتبونها للشباب بأسعار تختلف حسب عدد الكلمات، ونسبة الإطراء فيها ، الطبيعة لا تقبل الفراغ، وفي كل المهن هناك المحترف وهناك المدعي، والمدهش أن المدعي هو أكثر الناس تذمرا من حال “الكار” بلغة أهل السوق، أصدقاؤنا الكتبة صاروا كلما أرادوا أن يثبتوا لأنفسهم شيئا أعلنوا عن مشروع “نقدي” ما لا يكتمل في غالبية الأحيان لانعدام اللياقة وقلة الحيلة.

-مؤخرا أعلن ادونيس اعتزاله الشعر قائلا إن دورته الشعرية اكتملت .. وقد جاء تزامن هذا التصريح مع اعلان نتائج نوبل ليضع ادونيس في موضع متهم بانكساره.. ماتعليقك؟

بغض النظر عن الأسباب التي جعلت أدونيس يعلن ذلك، أنا أحترم ما قام به، وهو فعل نادر في عالمنا العربي، يا رجل لا أحد يتزحزح عن مكان عليه بقع ضوء، هناك من بلغ مرحلة الخرف الشعري، ولا يزال “يغثنا” بجديده، وهناك من لا يزال يتأبط كلماته المئة وعشرين، ويصففها كل مرة بطريقة جديدة، ويخرجها علينا في ديوان جديد، سلوك أدونيس مهما كان سببه، هو ممارسة غير اعتيادية، مضادة للسأم، لماذا علينا أن نصل دائما إلى مرحلة الرئيس المخلوع والمطرب الذي لا يسمعه غير جيرانه والشاعر غصبا عن الجميع، أحترم من لا يستعير لقنديله زيتا كزيت السيارات، احترم مثل هذه السلوكيات الصديقة للبيئة بصراحة.

-تجيدين اللغة الفرنسية ولاشك انها جعلتك تطلعين على ثقافة الآخر .. بعد عملك في المشرق وتماسك مع الاديب والمثقف المشرقي .. ماهي الفوارق التي وجدتها على المستوى الابداعي ؟

لا شك أن أي حكم سأطلقه إجابة عل مثل هكذا سؤال سيكون حكما معياريا بالدرجة الأولى، ولا أريد أن اقع في فخ التعميم، سأكتفي بالقول إن في بلدان المشرق والمغرب على حد سواء تجارب استثنائية تتشتغل على نفسها بثقة وبصيرة حادة، وأنا أحترمها وأتابعها.

-لو قيّض لك أن تكون احدى اعضاء لجنة تحكيم بوصفك ناقدة .. كيف سترتبين أسماء أوقدت في مخيتلك جمرة الشعر في أمير الشعراء؟

حسنا إنه سؤال في شكل مصيدة، ولكنني لست من فصيلة القوارض كي أقع في مثل هكذا فخ.

-سنحسر التقييم بالمشاركة الجزائرية في أمير الشعراء والأسماء التي تشيرين اليها؟

دون تردد ولا انحياز وبموضوعية مطلقة شفيقة لوعيل.

-كلمة أخيرة توقعين بها حوارنا معك؟

لك ولقراء الوكالة شكري الجزيل وامتناني الخالص واعتذاري الشديد أيضا على ارتفاع نسبة الكلسترول في هذا الحوار.

الناقد الدكتور عبد الله الغذامي

وكالة أخبار الشعر / عمر عناز- جاسم سلمان

من سماوات أسئلة الحداثة واشكاليات الهم الثقافي، تنفست شمس تأملاته المشرقة، مفهرسة تفاصيل المشغل الابداعي وفق رؤى كانت ولما تزل مثار جدل ومحل اعتناء المثقف العربي على امتداد خريطة الفكر… مختلف في طروحاته النقدية حد التضاد مع خطابات التابو واشتراطات السلطة وما اتُفق عليه حتى اكتسب صفة الرسوخ.. منطلقا في نهجه ذلك من سعة اطلاعه،وعمق معرفته، ووضوح حجته العلمية وبرهانه الأكيد الذي استقاه عبر رحلة بحث مازالت سفائنها تقلب امواج الشك وصولا الى ضفة الحقيقة المطلقة، إنه الناقد الدكتور عبد الله الغذامي صاحب مذهب النقد الثقافي الذي منح المشتغلين على قراءة النص الأدبي أفقا جديدا يتسع لاختلافات متعددة تفضي الى دوال قد لانبصرها الا عبر اراوحنا، الغذامي ظاهرة فكرية لامعة.. استطاع عبر اشتغالاته المتعددة ان يثري المكتبة العربية بما يمنحها خصوصية تليق بها، وعبر فضاء وكالة انباء الشعر يجيء صوت الغذامي من خلال هذا الحوار الذي ننشره بالتزامن مع جريدة الاتحاد الإماراتية في عددها الصادر اليوم الثلاثاء 13-10-2009 ونفرط حبات عقده بين ايديكم … فمع الغذامي نسافر واليه نصغي…

– الدكتور عبد الله الغذامي صاحب مشروع نقدي كبير لم يواكب مشروعه حركة شعرية – سعوديا على الأقل- موازية لهذا التفوق النقدي وهذا ما نلحظه عبر تناولكم لاشتغالات لا حضور إبداعي لها .. ما تعليقك؟

لم يكن من ضمن أهدافي أن يرتبط المشروع النقدي عندي مع أي مشروع إبداعي آخر مهما كان، فأنا لا أقدم نفسي على أني ناقد سعودي في هذا المعنى المحلي، وأنا في هذا الأمر ناقد عربي أنتمي للثقافة العربية وأكتب عن محمود درويش، مثلما أكتب عن امرئ القيس أو المتنبي دون أن تدور في ذهني حدود تاريخية أو جغرافية ، مع أني لا يمكن أن أنسى الإشارة إلى الثمانينات ووهجها الإبداعي الشعري، سواءً من شعراء الحداثة السعوديين أو الشاعرات ، وكذلك الجيل الشعري الذي امتد من السبعينات إلى الآن، وهو له الحق أن يشار إلى تجربته بتقدير، غير أني لست متخصصاً محلياً، بحيث أربط عملي النقدي النظري مع إبداعٍ محلي، خاصة مع انتقالي للنقد الثقافي .

– بالفعل .. تحولت إلى النقد الثقافي للمجتمع والظواهر التي تولد فيه والأنساق الاجتماعية المنبثقة عنه .. وتركت الأدب .. فما هو سبب هذا التحول ؟

يكمن وراء هذا التحول عدد من الأسباب منها أن النقد الأدبي وصل إلى حالً من التشبع ، بحيث إن مقاله في السبعينات والثمانينات صار الآن مجرد تكرار، والخطاب النقدي الأدبي الحالي يعيد ما قبل في الفترة السابقة ، في زمن توهج البنيوية والتشريحية ، وبما إن المقولات النظرية صارت تعيد ذاتها ، وتكرر نفسها ، فإن هذا النقد صار متشبعاً وعاجزاً عن إحداث رؤية جديدة ، واكتفى بالدوران حول ذاته ، وهذا عامل مهم في العلوم والمعرفة، تموت النظرية ( أية نظرية ) إذا تشبعت وعجزت عن طرح أسئلة جديدة والتعامل مع إشكالات جديدة، ومن ثم نأتي للسبب الثاني وهو أن الثقافة الإنسانية بعامة شهدت تغيرات ضخمة في الخطاب نفسه، وجاءت ثقافة الصورة، بخصائصها الجديدة ، وهي تتطلب نقداً خاصاً بها ، يستخدم أدوات أقدر في كشف خصائص الصورة ، ولا يكتفي بتلك الأدوات التي صارت الآن تقليدية ، وانحصرت في كشف الخصائص الشعرية والأدبية أي الجماليات البلاغية مما هو غير قائم الآن ، ومما هو غير مؤهل لمواكبة المتغيرات ، ونأتي للسبب الثالث وهو أن الثقافة العربية ، بتاريخها الطويل ليست مجرد نصوص كما يقترح علينا النقد الأدبي ولكنها تنطوي على ( أنساق مضمرة ) ولا بد من كشفها والتعامل معها وهذا هو موضوع النقد الثقافي .

عوض القرني

– إلى أي مدى انسجم أو تقاطع الخطاب النقدي لدى الغذامي مع الخطاب الديني في السعودية؟ وهل ثمة موقف تجلى عبر تماس مع شخوص بعينهم ؟

لا يوجد من قبلي كما أني لا أجد في نفسي موقفاً مضاداً لأي خطاب مضاد مهما كان ولكن الطرف الآخر هو الذي ينظر إليّ بريبة ويتعامل مع أفكاري بطريقة سلبية ، ويتصور أنها عمل مناقض للأصول الثابتة ، وهذا ما نجده في ( كتاب الحداثة في ميزان الإسلام ) وفي مجموعة كتب أخرى إضافة إلى أشرطة كاسيت وخطب جمعة وإحالات كثيرة في مقالات بالصحافة إلى درجة أن جريدة يومية تصدر في مكة المكرمة تخصصت لمدى 5 سنوات يومياً بمنازعتي ومنازعة أفكاري ، والعجيب أن أياً من هؤلاء المؤلفين والكتاب والصحفيين لم يحاول قط أن يتحاور معي مباشرة أو يتكاشف معي ، بل إني لم أر مؤلف كتاب الحداثة في ميزان الإسلام قط في حياتي إلى اليوم إلا مرة واحدة على شاشة التلفاز وليس على الواقع فكيف حينئذ يزعم أنه يحاورنا أو يعرف قضيتنا ، وهو لم يتحدث مع أي منا أو على الأقل معي ، ولا حتى على الهاتف ، كذلك فإنه لم يقرأ أياً من كتبي ، ولم يأخذ أيا منها في كتابة ، بينما تمتلئ صفحات الكتاب بالكلام عني ، عبر ظنون وأوهام ومقولات شفاهية وتسريبات عامة ليست يقينية وليست حقيقية وليست موثقة وبكل تأكيد لا تصلح أن تكون أساساً لبناء حجة أو رأي ، وهذا يشير لكم أن ليس هناك تقاطع ولا نقاش .

– وصفت مؤلف كتاب ( الحداثة في ميزان الإسلام ) الشيخ عوض القرني بالجاهل وأنه لا يمتلك الأدوات العلمية للتأليف في النقد .. ألا ترى أنها تهمة فيها إجحاف بحقه كأكاديمي وتقليل من شأنه كإنسان ؟

نعم بكل تأكيد الرجل جاهل وعليه اتهامات قوية أن الكتاب ليس من تأليفه ، وبعض الكتّاب أشاروا إلى ( سعيد الغامدي ) صاحب شريط ( الحداثة ) على أنه صاحب العمل أصلا وكان تلميذاً عند عوض القرني وكلفه ببحث في الجامعة عن الحداثة ثم راح وأخذه ووضعه في كتاب وهناك مؤشرات على ذلك أن في الكتاب اقتباسات ليست صحيحــــة ، فقد أشـــــار مـــــرة إلى ( الجابري ) واصفاً إياه بالشيوعي وأسندوا إليه قولاً من أربعة أسطر وإذا ذهبت إلى كتاب الجابري تجد أن الكلام ليس للجابري ولكن الجابري صاغه ليرد عليه وليفنده مما يعني أن عوض القرني لم يقرأ كتاب الجابري ويعني أن الأوراق اختلطت عليه عبر انتقالها من يد إلى يد حتى ان الأستاذ محمد العلي حينما كتب عن الكتاب كان يشير إلى ( المؤلفين) لإحساسه أن أيادي كثيرة تعاونت للملمة أطراف الأحاديث فيه ونحن إذا تكلمنا عن كتاب مثل هذا لا بد أن ننتبه أن الكتاب يقوم على الطعن بعقائد الناس وبإيمانهم وهذه مسألة خطيرة تحتاج إلى التدقيق والتيقن وهذا لم يفعله مؤلف الكتاب لأنه دخل في أمرٍ يجهله ، ويجهل أبعاده المعرفية ، وهو ليس من ذوي الاختصاص في النقد والإبداع ، ولكن تخصصه في الشريعة وأنا أقول انه عالمٌ بالشريعة ولا غبار على علمه فيها ، ولكنه جاهل بالنظريات النقدية والإبداعية .

– ولكن ليس رجال الدين وحدهم الذين يرفضون ( الحداثة ) وينتقدوها .. فبعد مرور كل هذه السنوات ألا تجد أن المجتمعات العربية لم تتقبلها، ولم تتفاعل معها، مما أدى إلى عدم تأثيرها وفشلها ؟

الحداثة العربية وقعت في خطأ كبير وهي ركزت على الحداثة الشعرية ولم تعتن بالحداثة الفكرية والاقتصادية والسياسية والفكرية، وهذا ما جعلها حداثة جزئية وليست حداثة كلية وهو ما سبب لها انكسارات كبيرة بل انها وكثير من الحداثيين قد تواطأت مع الطغاة والديكتاتوريين وروجت لهم ولسياساتهم، كما نعرف من الستينات إلى نهاية القرن وهذا ما أفقدها التعاطف الجماهيري حيث يكتشف الجماهير باستمرار أن هؤلاء المبدعين لم يختلفوا قط عن الطغاة السياسيين، أولئك كانوا مستعبدين سياسياً وسلطوياً وهؤلاء كانوا مستعبدين فكرياً واستعلائياً ، وهذا أمر محبط أفشل مشروع الحداثة ، لأنه كما قلت هي حداثة جزئية ، وليست كلية وكانت تجدد في النصوص ، ولم تجدد في التفكير السياسي الديمقراطي .

– هل نستطيع أن نقول أننا نعيش زمن سقوط نظرية الحداثة ؟

الحداثة سقطت عالمياً ، ونحن في مرحلة ما بعد الحداثة وهي مرحلة قامت فيها الأفكار النقدية ضد مشروع الحداثة حيث أن دعواها بالعقلانية والليبرالية والديمقراطية لم تحقق هذه الطموحات على مستوى العالم ككل بل قسمت العالم إلى كونين وعالمين أحدهما متقدم ومهيمن والآخر متأخر ومضطرب مع إدعاء الحداثة أنها صيغة كلية شمولية فألغت خصوصيات الثقافات الأخرى وأفرزت أخيراً العولمة التي هي ناتج للحداثة نفسها ولكن مشروع ما بعد الحداثة هو مشروع يقول بالفسيفساء الثقافية وهي التنوع الديني والعرفي واللغوي ووجود هوام كثيرة لا يمكن تحويلها إلى متنٍ عالمي واحد كما كانت غلطة الحداثة من هنا سقطت الحداثة ودخلنا بمرحلة تقيض الهوامش وتنبؤها إلى اختلافها وهكذا تثبت الثقافة أنها لا يمكن أن تكون صيغة واحدة ولكن صيغ متعددة ، وما ظهر الآن متجاوزاً الإدعاء الاستعلائي للحداثة .

أدونيس

– طرحت في كتابك النقد الثقافي أن ” أدونيس رجعي .. والمتنبي شحاذ كبير ” ألا تجد أن هذا الطرح يحتاج إلى مراجعة .. أم انك مازلت مصرّا وما تبريرك ؟

تناولت أدونيس بالفصل السابع من الكتاب بينما المتنبي بالفصل الرابع والكاتب أصلاً يقوم على كشف الأنساق الثقافية المضمرة وأنا كشفت أن الخطاب الشعري كان ينطوي على جماليات بلاغية عالية ولكنه في المقابل يضمر أنساقاً ثقافية ضارةً من الناحية التكوينية الذهنية فالشاعر صار طاغية من الناحية المجازية أي أنه يعتمد على ( الأنا ) الفحولية وإنه يشعر بما لا يشعر به غيره وأنه لا يحاسب على كلامه وهذه صفات تمر علينا مرور الكرام ، ولا نفكر بها عادةً ، ولكننا لو تأملنا لأدركنا أن هذه بالضبط هي صفات الطاغية السياسي مما يعني أن هناك تواطئا غير معلن بين نسقين ثقافيين أحدهما للشاعر ويتم الترويج له عبر النقد الأدبي والآخر نسق سياسي يتم الترويج له عبر الإعلام ( وكلمة الشيوخ أبخص مثل كلمة المعنى ببطن الشاعر ) وهذا أمر يكشفه لنا النقد الثقافي ولا يستطيع النقد الأدبي كشفه مثلما أننا بحاجة إلى نقد النصوص وهذا يثبت لي أن أدونيس رجعي لأنه يروج لهذه الفكرة على وجه التحديد ويقول بالنص ( إن الحداثة لا عقلانية ولا منطقية ) فإذا كان الأمر كذلك فكيف يتوقع من حداثته أن تكون مشروعاً في التنوير وهي غير عقلانية وغير منطقية ، هذه هي الأوهام بعينها كما أنها خلاصة تجربة أدونيس .

– ولكنك صرحت ذات مرة أن هناك علاقة صداقة بينك وبين أدونيس على غير ما يطرح في الإعلام من حروب بينكما وخلافات فكرية كبيرة .. فهل هناك استغفال للمتلقي في طبيعة العلاقة بينكما ؟

المسائل الشخصية لا شأن لها بالمسائل المعرفية ، ولن أجامل صديقاً فأكذب على نفسي وعلى التاريخ ، كما أنني لن أخاصم عدواً وأرفض تفكيره لمجرد أني لا أحبه ، إن للفكر حقوقاً ، يجب اعتمادها ، كما أن للصداقة حقوقاً يجب اعتمادها ، بشرط التفريق والتمييز بين الاثنين

– معروف أن لك موقفا ثقافيا وقوميا من الشعر الشعبي .. فما الذي ترفضه فيه … هل هو كونه يكتب باللهجة العامية وليس بالفصحى أم ماذا ؟

أنا قضيتي هي اللغة العربية الفصحى ومسؤوليتي العلمية والأخلاقية توجب علي الوقوف بجانب الفصحى وهذا هو الذي يجعلني أتوجس من الاهتمام المبالغ به للعامية عموماً ، سواءً في خطابات الزعماء أو في لغة الإعلام أو في إعلانات الشوارع أو في الشعر والكتابة وهذه المسألة مضادة لفكرة الوحدة والأمة والكيان التاريخي الواحد .

– يوجد حالة تضاد أو عدم توافق أو ملاحقات بين المثقف العربي والمؤسسة الدينية من جهة أخرى .. فأين يكمن القصور ولماذا لا يوجد توافق بين فئات المجتمع العربي المختلفة ؟

أنا من حيث المبدأ مع التنوع والاختلاف ولا أطالب أحداًُ بالانصياع إلى شروط أحد آخر ولكن مع تعزيزي للاختلافات والتنوعات فما أجاهد من أجله هو أن أجعل كل واحد يقبل باختلاف الآخرين معه ، والمشكلة عندنا أن كل فئة ترى أنها على حق وأن غيرها مخطئ وتضيع الحقيقة في هذه الحالة ، وتظهر الفتن ، لذلك فإن المطلب عندنا أن نعترف بأننا متنوعون ، ومختلفون ، وأن يقبل بعضنا بعضاً ، تبعاً للاعتراف بهذا الاختلاف من دون أن يصر أحدنا على جر الآخر إلى معسكره بالضرورة والإكراه ، لذلك لا أطالب خطباء الجمعة أن يكونوا مثلنا ولكن أطلب منهم ألا يرغمونا أن نكون مثلهم ، لهم الحق في تمثيل أنفسهم كما يرون ، وليقبلوا منا أن نمثل أنفسنا كما نرى أيضا .

– بوصفك عضوا في اللجنة الاستشارية لجائزة الشيخ زايد للكتاب … كيف تعرف هذه الفعالية الثقافية وما مدى انتصارها للمنتج الثقافي المبدع ؟

جائزة الشيخ زايد مشروع طموحٌ جداً ، ويطمح إلى الدفع بعجلة التأليف العربي ، لذلك هي جائزة للكتاب تحتفل بالكتاب بسخاء كبير وبهمة عالية ، والمؤشرات كلها إيجابية ومفرحة ، إذ يتجاوز عدد المترشحين لها سنوياً أكثر من ألف مترشح ومترشحة ، وهذا رقم كبير اذا أخذنا بالاعتبار أن جائزة السنتين الأخيرتين ، مما يعني أنك تدفع بالأعمال الجديدة لكي تأخذ حقها ، من الانتباه إليها ، على مستوى التقدير ، وهي جائزة أدخلت الحس الاحتفالي إلى المؤلفين والناشرين وأرباب الكتاب ، فهي جائزة حقاً للكتاب ، وهذا سر طموحها ، وسر نجاحاتها المتحققة جزئياً الآن ، والتي نأمل أن تتحقق في كل عامٍ يتوالى على الثقافة العربية .

– وأين أنت من المساهمة تحكيميا واستشاريا في الأنشطة المحلية أم أن زامر الحي لا يطرب؟

لست مع جملة ( زامر الحي لا يطرب) وفي الوقت ذاته أنا أقول أن هناك خلافات عميقة بيني وبين وزارة الثقافة والإعلام ، إلى درجة أني صرحت وأصرح أن هذه ليست وزارة الثقافة ولكنها وزارة الإعلام فقط ، ولا ثقافة فيها .

إياد مدني

– هل صحيح أن شرارة الخلاف هو إلغاء وزير الثقافة السعودي السابق للانتخابات في الأندية الأدبية ومقاطعتك لها بعد ذلك ، وابتعادك عنها ؟

أخطر ما صار منها أن أول قرار اتخذه وزيرها السابق هو قرار إلغاء الانتخابات في الأندية الأدبية ، وهذا ما جعلني أعلن مقاطعتي التامة للأندية الأدبية إلى حين إعادة الانتخابات ، وموقفي هذا مكتوب ومعلن ويتكرر الحديث عنه كل شهرين أو ثلاثة ، ثم ان الوزير السابق تحدث إلي ، وقد جاء إلي ، ولم يكن في جعبته أي حل بل كان يريدني أن أتقبل موقف الوزارة وأبلغته أن هذا سيكون بمثابة خيانة الأمانة من طرفي لو أنا فعلت ، ثم أن الوزير الجديد تحدث معي هاتفياً مرتين وكانت وعوده جميلة لكن الأمر يحتاج إلى مواقف وليس إلى وعود ولهذا السبب يظل موقفي غير متغير .

– بالأمس القريب صدر أمر ملكي بإعفاء الشيخ سعد الشثري من هيئة كبار العلماء على خلفية حملة تبنتها عدد من الصحف ورؤساء التحرير .. إلى أي مدى يمكن اعتبار هذا الأمر خروجاً عن نسق العلاقة بين السلطة ورجال الدين والمثقفين ؟

القضية الأهم عندي هي أن النقاش الفقهي الأصولي حول مفهوم الاختلاط وهل هو محرم أم لا ، والذي أعرفه من كثير من الفقهاء وسمعتهم يجاهرون به أن المحرم هو الخلوة وأن لا دليل على تحريم الاختلاط ، وهذا أمر سمعته من فقهاء وسمعته في الرياض ، بندوات مصرح به ومجاهر بها ، وهذا هو الأمر الذي يهمني أن يناقش ، فهو أمرُ مصيري وحساس ، ولو تركنا الأمور الكبرى مثل هذا السؤال ثم انشغلنا بتعيين فلان أو فصل فلان ، فنحن نترك القضايا الأساسية ، وننشغل بأمور إدارية .

– مازلنا بحاجة إلى نظرية نقدية .. قول طالما يتردد في سياق المبالغة في الاتكاء على النظريات الغربية .. الم نتمكن عبر كل هذه الممارسة النقدية من اجتراح نظرية أو ملمح لها؟

هذه المسائل هراء لأن النظرية لا يمكن أن تكون مثل تأشيرات العمالة ، مثل أن ندخل النظرية بلا تأشيرة أو ( إذن جوازات أو تذكرة طيران ) ومعناه أن النظرية إنسانية كلية لا تقيدها الجغرافية أو العرق وأن نقول أن النظرية النسبية يهودية لأن مكتشفها يهودي أو نقول الجوال نصراني لأن مكتشفه نصراني ، هذه المسائل لا شأن لها بالعرقيات وهذه مكتسبات إنسانية والعقل البشري واحد لكن الجسد البشري متنوع وهنا يجب التفريق .

– أخيرا .. بماذا يبشر عبد الله الغذامي قراءه ومتابعيه؟

صدر لي كتاب ( القبيلة والقبائلية ) وهو بحث عن الهوية ما بعد الحداثة ، ولا يزال مثل الخبز الحار ولم يبرد ولم تبرد الوجبة لكي نسعى إلى وجبة ثانية ، لذلك ما يزال الوقت مبكراً على إصدار أو الحديث عن عمل وكتاب جديد .

الشاعر العراقي الكبير معد الجبوري

بمناسبة صدور أعماله الشعرية الكاملة
الشاعر العراقي الكبير معد الجبوري في حوار موسع للوكالة : قصيدة التفعيلة ماتزال ساحة واسعة للتجديد والتجريب والتألق و الشكل العمودي استهلكه الشعراء
الاحد, 2009.08.09 (GMT+3)

الإبداع الحر المتميز لم يكن يوما صنيع أي جهة أو كيان.

الثقافة اليوم تشهد حالة هجرة ونفي وترقّب وتهميش مروِّع

المسرحية الشعرية الناجحة هي التي تنطوي على أكبر قدر من عناق الشعر والدراما

الشاعر المتفرد هو الذي يصلك بأدق خصوصيات جذوره ومنبته

الشكل العمودي استهلكه الشعراء عبر قرون طويلة وأي تجديد داخله يظل محكوما بإطاره التقليدي

وكالة أنباء الشعر/ حاوره: عمر عناز

كان دجلة يتنفس الصبح ويغزل الموج بأنامل من ذهب، وكانت قلعة باشطابيا المطلة على النهر تدقق في ملامح العابرين بقواربهم ومآربهم وفاء للموصل التي تغفو وادعة على الضفتين، في لحظة الكشف تلك التي اختزلت حضارات وازمنة ومسافات تجل بشّرت عاصمة الدولة الأشورية – نينوى – كل أصقاع الدنيا بفتاها الطالع من إبريق الخلق الشعري الأول منسفحا يدفق إبداعي عبر كل بوابات المدينة المتشحة بخضرتين وشمس عاشقة،
إنه معد الجبوري الشاعر العراقي الموصلي الذي ما إن تحدثه إلا وأحسست أنك في حضرة سِفْرٍ شعري مكتظ بكل إشراق الكلمة وعنفوانها، تشعر وانت في حضرة قصيدته أنك في حلقة ذكر صوفي تركض كالمجذوب في فضاءات غير متناهية الدلالات،
إنه معد الجبوري الكبير بعطائه وخلقه ولاشك أن اقتراف محاورته ضرب من محاولة أسعى من خلالها للملمة أطراف البحر الذي تفرع منه الستة عشر بحرا وحسبني انني سعيت لذلك…

مع معد الجبوري..نسافر وإياكم عبر هذا الحوار..

– فضلا عن كونك تكتب قصيدة العمود بجودة عالية ، إلا أنك تبدو شاعر تفعيلة بامتياز،ما القناعة التي دفعتك لتلبّس هذا الشكل المحايد بين متطرفين يتمثلان بالعمود وقصيدة النثر؟
قصيدة التفعيلة ما تزال ساحة واسعة للتجديد والتجريب والتألق، منذ خروجها على القالب التقليدي.. أنا لا أعتبر شكلها محايدا، وأرى في قصيدة النثر امتدادا لقصيدة التفعيلة لدى روادها الذين واكبوا خط انطلاق ما سميَ حينها بالشعر الحر ولدى من يكتبونها اليوم من شعراء التفعيلة ومن المبدعين.. إلا أنها ابتليت بمحاولات كل من هب ودب من عديمي المواهب والمدعين ممن ليست لديهم أي حساسية شعرية ولا أدنى اضطلاع بشؤون اللغة وبالأوزان الشعرية، حتى عجت الساحة بالطارئين ممن يسمون أنفسهم شعراء، ولا تعدو كتاباتهم أن تكون نوعا من الخربشة التي لا يلتفت إليها المبدعون الحقيقيون.
أما القصيدة العمودية فإن شكلها غير متطرف، فهو شكل أصيل متوارث.. بالنسبة لي منذ بداياتي الشعرية رأيت أن الشكل العمودي قد استهلكه الشعراء عبر قرون طويلة وأن أي تجديد داخله يظل محكوما بإطاره التقليدي، فغادرته إلى فضاء لا يصادر حريتي هو فضاء التفعيلة، ولعشقي الجم لموسيقى الشعر بقيت في هذا الفضاء الواسع أشتغل على تطويع الإيقاع لرؤاي الخاصة.. هذا ما اخترته مع أني لم أتخلَّ كليا عن القصيدة العمودية وأرى اليوم مبدعين كبارا في الشعر العمودي، أقدّر تجاربهم وأتابع محاولاتهم الخلاقة في التجديد داخل هذا الشكل.

– تبدو قصيدتك متدفقة المشاعر مزدحمة الصور والدلالات، هل ثمة تقانة خاصة تعمد إليها في اشتغالك للتوفيق بين كل هذه العناصر الفنية؟
قصيدتي وليدة تجربة ذاتية تعنى بالموقف والرؤيا، ولا تتنفس حتى تفك عن كينونتها أسار الظرف الذي أشعل شرارتها الأولى، وهي في هذا الاتجاه قد ترى في أي حالة ( مناسبة ) لتشكُّلِها، بيد أنها في لحظة تشكلها تلك ، تُجهز على المناسبة بدفعها إلى خلفية المشهد حتى تختفي لتظل قصيدة نائية عن أي مناخ من شأنه أن يقودها إلى الانطفاء، بانطفاء المناسبة اليوم أو غداً.. كما أن نصوصي لا تنساق وراء أداء سائب، أعني الأداء الذي تأخذه اللغة حيث تشاء، لقد كنت أنأى بالنص
عن الهذيان واللغو وأُفرِّق بين ذلك وبين التدفق العفوي الحار، حتى بات النص لديَّ مُقتصداً في مفرداته، وهذا لا يعني أني أرى اللغة محض وسيلة، بل هي في الشعر غاية حقّاً، لكن النظرة إلى الغاية هنا أمر مهم حين نميِّز بين نص كالطبل فارغ، وآخر معني بالإيصال ، فاللغة هي النص بكل عناصر نضجه ورؤاه وهو مشدود إلى نسغ الحالة- المضمون، سواء سعى إلى تفكيك الحالة أو هدمها ليقيم كيانه على الأنقاض أو على أرضية أخرى..
عبر ذلك، كان النص لديَّ في تحولاته يعتمد تقنيات وأساليب بناء وأداء حديثة شتى، تنبع من حاجة بنيته الداخلية إليها كالأداء الدرامي الذي يعتمد الصراع والصدام عبر الحوار وتصاعد الحدث، والبناء القصصي السردي، واعتماد أساليب السيناريو والتشكيل من لصق وقطع واختزال.. فضلا عن اتصال تجربتي بمناخ التراث، ونظرتها إليه على أنه ( طينة ) ما تزال دافئة ليِّنة يمكن تطويعها لخلق نماذج ذات بنية جديدة، لا تتخلى في الوقت نفسه عن هويتها.. وظل ذلك يستدعي الخروج من حالة الشائع المتداول عن الماضي إلى حالة التغلغل في مفاصله وغاباته الكثيفة لمفارقة السطحي العابر ومعانقة الغاطس النائي.

– بين مَن يرسم مسار قصيدته ويخطط لبنيانها، ومن يطلق لها العنان دون منهجة أو تحضير مسبق، كيف يقرّر معد الجبوري قصيدته أو كيف تقرّره قصيدته؟
القصيدة لدي تبدأ من شرارة تقدح فجأة لسبب ما ، فتشعل حرائقها في كياني، عندها أصاب بحمى ساعة الطلق ولا أهدأ حتى تبينَ ملامح الجنين، فأعمل بخزين رؤاي وتراكم خبرتي على تعميق قسمات تلك الملامح ، ولا أغادر فضاء القصيدة حتى أحس أنها قد حملت صوتي وبصماتي الخاصة.
أحيانا، وبعد لحظة الولادة، أطلق القصيدة كما هي، مسفوحة على الورق أمام المتلقي .. أطلقها هكذا: بدفئها وشوائبها وبقايا دم المشيمة، ثم أدير ظهري بانتظار شرارة أخرى

– منذ (آدابا.. وشموكين) مسرحياتك الشعرية ، وتأسيسا على ما تقرّره معرفتك في هذا المشغل، ماهي مرتكزاتك في المسرح الشعري وهل استطاع نصك المسرحي أن يواكب توهج قصيدتك أم لا ضرّة للقصيدة؟

لقد جئتُ إلى المسرح من خلال الشعر، ولم آتِ إلى الشعر من خلال المسرح.. حاولت أن أفك قفص الصوت الواحد عن القصيدة ، في الأخذ بها من حنجرة الشاعر وأوراقه إلى الخشبة ، كي يفحص الشعرُ إمكاناتِه في مديات الفعل، ويتخلَّق عن بنى أخرى ترتاد به فضاءً آخر من الأداء، وهو في الوقت نفسه دخول للدراما في مستوى من الأداء يغتني بِطاقةِ الشعر الخلاّقة وقدرته على السمو بأجواء الصراع.. إنها عملية تبادل وتناغم بين الدراما والشعر في كلٍّ واحد لا يتجزَّأ هو المسرحية الشعرية.. ومن هنا، من هذا التناغم تنشأ صعوبة فن المسرح الشعري، إذ ( أن على الشاعر المسرحي أن يمتلك قدرة التأثير على مستويين دفعة واحدة ) كما يقول ( إليوت ).. والمسرحية الشعرية الناجحة هي التي تنطوي على أكبر قدر من عناق الشعر والدراما، وليس كافياً لمن يتصدى لهذا الجنس من الإبداع أن يكون شاعراً مقتدراً فحسب.. بل ينبغي في الوقت نفسه أن يتمتع بقدرة درامية فائقة..
إلى أي مدى اشتغلتْ نصوصي المسرحية على هذا الأساس؟.. هذا ما يقرره الآخرون.. لكنني كنت أعمل ضمن فهم أن ( الشعرية ) في المسرح الشعري لا تعني انسلاخ الشعر عن البناء الدرامي بحيث يمكن عزل مقطع شعري على أنه قصيدة ذات كيان مستقل يمكن ألاّ يتصل بكيان المسرحية، كما جرى في مسرح أحمد شوقي ومَن جاراه ممن اعتمدوا الشعر العمودي في التأليف المسرحي، مع الإقرار لهم بفضل الريادة في ميدان فن لم يعرفه الأدب العربي على مرِّ العصور..
( الشعرية ) التي اشتغلتْ عليها نصوصي المسرحية، هي النسغ الذي يَنْبثُّ في خلايا النسيج الدرامي.. هي المناخ الذي تتشرَّبُ فيه بنيةُ الدراما أنفاسَ الشعر وطاقاته الخلاّقة تشرُّباً لا يمكن معه فَكُّ اللُّحمة بين مستويَي الأداء، دون أن يُشير أحدُهُما إلى الآخر.. المهم أَلاَّ يتخلخل الإيقاع العام، فيطغى النثر، أو يسود الشعر فيخفت الفعل، وفي الحالتين يغيب التناغم الذي هو جوهر الدراما الشعرية..
أما أن يكون للقصيدة ( ضرة ) أو لا يكون، فهي مسألة غير واردة بين القصيدة والمسرحية، لأن كلاهما جنس من الإبداع يختلف عن الآخر.. الشعر المندغم بالدراما في نصوصي المسرحية الشعرية الأربعة هو جزء منها، أما قصيدتي فلها كيانها الخاص.. لا تنافس ولا تقاطع، بل حضور في نمطين من الابداع.

– قديما كان يقال إن الشاعر لسان حال قبيلته، هل ترى ونحن في غمرة الثورة المعلوماتية التي تكاد تذيب الهوية أن وظيفة الشاعر القومية مازالت هي ذاتها أم تغير الموقف بتغير الحال؟

الشاعر لسان بيئته وبلده سواء أعلن ذلك أو أخفاه، أما الثورة المعلوماتية التي وصلت شعوب الأرض ببعضها فإنها اليوم تكرس هويات الشعوب ولا تذيبها.. إن الإتصال بين الثقافات لا يلغي بعضها لحساب البعض، ولا يمكن لشعب أن يتميز أو يحيا دون وجه ينفرد به وبصمة تشير إليه، فلكل شعب موسيقاه وشعره وطقوسه وأحلامه.. والشاعر المتفرد هو الذي يصلك بأدق خصوصيات جذوره ومنبته، ومنها تشع رؤاه ومواقفه الإنسانية، ودون ذلك لن يلتفت إليه المتلقي قوميا أو عالميا.. بالنسبة لي مثلا يهمني جدا أن يقال عني قبل كل شيء وبعد تلقي قصائدي: إنه شاعر عربي عراقي من مدينة الموصل ، ولا أريد الوصول إلى أي قارئ في الأرض دون وجه أو هوية.. إن المحلية هي العالمية بعينها.

– تعرفت خلال مسيرتك الشعرية على الكثير من الأسماء التي انطفأ بعضها وخفت بعضها ومازال البعض الآخر مضيئا في المشهد، من الذي مازال حضوره الشعري حي في ذاكرتك؟

عن الرفقة والذاكرة والحضور على الساحة الشعرية، أعود إلى بدايات أسماء من جيلي ممن كتبوا ما سمي بشعر التفعيلة..
في أواسط ستينات القرن الماضي جمعتني كلية الشريعة في بغداد بأصوات شابة كان لها حضورها المتألق، وفي مدينتي الموصل عشت برفقة العديد من الأصدقاء شعراء التفعيلة، واليوم تحضر في الذاكرة أسماء شعرية عديدة من تلك الأصوات. لكن الأهم هو الحضور في المشهد الشعري.. فمن زملاء كلية الشريعة لم يبق مواصلا سواي وشاعرين يتصدران اليوم المشهد الشعري العراقي، هما: الشاعر المبدع كاظم الحجاج والشاعر المبدع موفق محمد، اللذان يمزجان الآن بين التفعيلة وقصيدة النثر بتميّز وخصوصية، وما يجمعني أيضا بالشاعرين الصديقين أننا لم نهاجر، فما زلنا نقيم في مدننا التي نحب: الموصل والبصرة والحلة ويتشرّب شعرنا أنفاسها وخصوصيتها.
ومن رفقتي من شعراء جيلي في الموصل من شعراء التفعيلة، لم يبق يرفد المشهد ويتصدره سوى كل من الشاعرين المبدعين عبد الوهاب اسماعيل وأمجد محمد سعيد، والشاعرة المبدعة بشرى البستاني، أما الذاكرة فتسكنها أسماء عديدة بعضها رحل والبعض توقف أو أنطفَأ. وقس على ذلك حضور الأسماء الأخرى من الأجيال الأخرى التي ما يزال بعضها يتصدر المشهد، والأسماء الجديدة التي تتشكل اليوم بصماتها الخاصة.

– يزعم البعض أن المثقف العراقي كان فيما قبل الإحتلال محكوما بعدم التقاطع مع خطاب السلطة ، ما صحة ذلك وهل كان الممنوح من حرية يتناسب والفاعلية المرجوة للخطاب الثقافي؟
هو زعمٌ فحسب.. وأحسب أنه زعمُ مَنْ لم يكن حاضرا في الصورة، ولأقصر حديثي عن الشعر فهو من أخطر عناوين الثقافة.. لقد شاركتُ مثلا في مهرجانات المربد كلها، ولم يفحص أحد في أيٍّ منها ما سألقيه، ولم يعترض أحد على ما ألقيت.. هات شاعرا واحدا فقط، عراقيا كان أو عربيا أو أجنبيا، فُحصت قصائده أو وقف أحد في وجهها في أي مهرجان أو ملتقى عراقي شارك فيه، لأقول لك بعدها: لقد كان ذلك الشاعر مطالبا حقا بما يزكّيه عن التقاطع مع خطاب السلطة.. إن أقل ما يمكن أن يقال عن تلك الفترة في الميدان الثقافي: إنها كانت فترة ازدهار الثقافة، أما اليوم فإن الثقافة عموما تشهد حالة هجرة ونفي وترقّب وتهميش مروِّع.

– ألم تسهم المؤسسة الثقافية في تصدير الكثير من الأسماء غير الجديرة وفق فلسفة المعارضة والموالاة؟

أي مؤسسة تعني؟ أنا لا أبرئ كل الكيانات الثقافية والحزبية في كل قارات العالم من الترويج لمنتسبيها والموالين لها.. لقد صعدت على أكتاف بعض الاتجاهات والتيارات هنا وهناك عشرات الأسماء ممن لا تستحق ما نالته من حضور وشهرة، ثم كانت متغيرات الزمن كفيلة بدفع تلك الأسماء وراء الكواليس.. المبدعون الذين يصنعون مشاهدهم بأنفسهم هم الذين يشار إليهم دائما سواء حسبوا على هذه المؤسسة أو تلك، والإبداع الحر المتميز لم يكن يوما صنيع أي جهة أو كيان.

– على امتداد ما أرّخت من حضور شعري، هل كتبت القصيدة التي تريد أم مازلت تقترف الكتابة بحثا عن جديد ومختلف؟

باختصار أقول: إنني عندما أقعد أمام ورقة بيضاء يقعد معي، ربما دون أن أدري، كل إنجازي في الشعر منتظرا ما يتخلَّق بين يديَّ مما يضيف إليه ويتجاوزه، لأني مع كل نص جديد أبدأ من جديد.. وما دمتُ أتنفس فإن جمرة الشعر تظل متقدة في أعماقي، ولا أظن أنني سأتوقف يوماً ما، حتى يتوقف النبض، وهو نبض الحياة والكلمة في آنٍ واحد..

– ينشط الأدباء الشباب في العراق في تقديم صورة لواقع القصيدة العراقية، كيف تقرأ حضورهم وما البرقية التي تريد أن ننقلها عنك إليهم؟

من دون الأصوات الشابة في ميادين الإبداع كلها تكف الحياة عن الخفقان.. لكنَّ رَحِمُ العراق ولُود، وساحة الشعر فيه واسعة مكتظة، فالشعر العراقي يظل جوهرة تاج الشعر العربي..
في السنوات الأخيرة امتلأت الساحة بالأصوات الجديدة، وأعترف أنني لم أتمكن من مواكبة معظمها.. ولعلي هنا لا أستطيع أن أشخص بدقة سوى أسماء المبدعين في الموصل، ممن جاء حضورهم بعد جيلنا ومن الجيل الجديد، فقد برزت كوكبة من شعراء القصيدة العمودية المجددين ممن تجاوزت أسماؤهم حدود العراق وكانوا الفرسان الأوائل في مسابقات الشعر العربي المعروفة، أبرزهم المبدعون: وليد الصراف، عمر عناز، محمود الدليمي، هزبر محمود، أوس الفتيحات، عبد الله البدراني، عمر حماد هلال، عبد المنعم الأمير، جاسم محمد جاسم.. وقبل هذه المجموعة برز شعراء مبدعون في شعر التفعيلة، نشروا وما زالوا ينشرون في أبرز الصحف والمجلات العربية وكان لهم حضورهم في الملتقيات والمهرجانات، منهم: مزاحم علاوي، هشام عبد الكريم، عبد الجبار الجبوري، كمال عبد الرحمن، كرم الأعرجي، سيف الدين جميل، حمد الدوخي وفي قصيدة النثر برز شعراء لكل منهم صوته وبصماته، أبرزهم: رعد فاضل، باسل عبد الله، شاكر سيفو.
ولا برقية أريد أن تنقلها عني إلى الشعراء الشباب، بل أنا أنتظر برقياتهم.. أعني نصوصهم الشعرية الجديدة.

مَعَد الجُبوري
سيرة ذاتية أدبية

· الاسم الكامل: مَعَد أحمد حمدون الجبوري
· اسم الشهرة: مَعَد الجُبوري
· الاختصاص الأدبي: شاعر ومؤلف مسرحي
· ولد في مدينة الموصل بالعراق عام 1946
· بكالوريوس آداب من جامعة بغداد – كلية الشريعة- 1968
· من 1969 – 1989 عمل مدرسا، ثم مديرا للنشاط المدرسي في تربية محافظة نينوى، ثم صحفيا في جريدة القادسية، ومديرا لفرقة نينوى للتمثيل التابعة لدائرة السينما والمسرح.. ومن 1989 – 2003 عمل مديرا للمجمع الإذاعي والتلفزيوني في نينوى. وانقطع عن العمل الوظيفي بعد احتلال العراق في نيسان عام 2003 وبطلب منه أحيل على التقاعد.
· عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.
· عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق منذ عام 1971، شغل عضوية المجلس المركزي للاتحاد لثلاث دورات، بين 1996 – 2003
· عضو نقابة الفنانين العراقيين،رئيس فرع نينوى للنقابة من 1981- 1985
· رئيس اللجنة الاستشارية للثقافة والفنون في نينوى من 1996 – 1998
· نشر وما يزال ينشر على صفحات العديد من المجلات والصحف العربية والعراقية المعروفة
· أصدر أول مجموعة شعرية عام 1971 وكتب أول مسرحية شعرية في العام نفسه.
· من أوائل من كتبوا المسرحية الشعرية الجديدة في العراق، وله في هذا الميدان أربع مسرحيات شعرية منشورة، حظي كل نص من نصوصها بأكثر من عرض مسرحي داخل العراق وخارجه.
· شارك في العديد من المؤتمرات والمهرجانات والأيام الثقافية مثل: مهرجان أبي تمام 1971– مؤتمر الأدباء والكتاب العرب 1986– الأسبوع الثقافي العراقي الأول في اليمن 1987 – والأسبوع الثاني في اليمن 1989- مهرجان الشعر الآسيوي في دكا ببنغلاديش 1989- الاحتفالية الثقافية الفنية في دار الأوبرا بالقاهرة 1997 – مؤتمر الأدباء والكتاب العرب 2001 – مهرجان أبي العلاء المعري الحادي عشر في سوريا 2007- ومهرجانات المربد الشعرية منذ دوراتها الأولى، حتى عام 2002
· كان له حضور شعري في مدن عديدة، عبر اللقاءات والقراءات الشعرية، منها: دمشق، القاهرة، الرباط، تونس، صنعاء، مقديشو، طنجة، وجدة، مراكش، سوسة، تعز، عدن، دير الزور،الحسكة، معرة النعمان، استنبول، صوفيا، بودابست، بخارست، بلغراد، براغ، لندن، دكا، بانكوك..
· كتبت عن نتاجه الأدبي عشرات البحوث والمقالات النقدية بأقلام العديد من النقاد والكتاب المعروفين، وأدرج اسمه كشاعر مسرحي رائد في مناهج الدراسة الثانوية في العراق. ودرست أعماله في العديد من الرسائل الجامعية، وثبت اسمه ونماذج من نتاجه الشعري في معاجم الشعر والموسوعات الأدبية، وكتب المختارات من الشعر العربي والعراقي.
· ترجمت نصوصه إلى العديد من اللغات الأجنبية، بدأها د. محمود صبح بترجمة مسرحيته الشعرية ( آدابا ) عام 1972 إلى الأسبانية ونُشر النص الأسباني في مجلة ( المنارة ) بإشراف المستشرق الأسباني( بدرو مارتينث مونتابث) ثم توالت الترجمات إلى العديد من اللغات الأجنبية. كالإنكليزية والألمانية والفرنسية والهنغارية والتركية والكردية.. وغيرها
· أقيمت له أمسيات احتفاء وتكريم عديدة ومنح العديد من الأوسمة الشهادات التقديرية.
· حصل على جائزة الدولة ( الإبداع في الشعر ) لعام 2001 عن مجموعته الشعرية ( أوراق الماء ) من وزارة الثقافة في العراق.
*
صدر للشاعر:

1- اعترافات المتهم الغائب ( شعر ) دار الكلمة – النجف 1971.
2- للصورة لون آخر ( شعر ) وزارة الإعلام – سلسلة ديوان الشعر العربي الحديث، دار الحرية للطباعة – بغداد 1974.
3- آدابا ( مسرحية شعرية ) المركز الثقافي الاجتماعي لجامعة الموصل- 1977
4- شَموكين ( مسرحية شعرية ) صدرت في كتاب عن مجلة ( فنون ) العراقية- بغداد 1980.
5- وردة للسفر ( شعر ) وزارة الثقافة والإعلام – سلسلة ديوان الشعر العربي الحديث، دار الرشيد- بغداد 1981
6- هذا رهاني ( شعر ) وزارة الثقافة والإعلام – دار الشؤون الثقافية – بغداد 1986.
7-الشرارة ( مسرحية شعرية ) وزارة الثقافة والإعلام – دار الشؤون الثقافية – بغداد 1986.
8- مسرحيات غنائية – تأليف مشترك مع الشاعر عبد الوهاب إسماعيل – مطبعة الجمهور في الموصل 1987.
9- آخر الشظايا ( شعر ) وزارة الثقافة والإعلام – دار الشؤون الثقافية – بغداد 1988.
10- السيف والطبل ( مسرحية شعرية ) دار الشؤون الثقافية – بغداد 1994.
11- طرديات أبي الحارث الموصلي ( شعر ) دار الشؤون الثقافية – بغداد 1996.
12- كتاب المكابدات(مختارات من شعري) اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1999.
13- أوراق الماء ( شعر ) دار الشؤون الثقافية – بغداد 2001.
14- حُرَق في فضاء الأرق ( شعر ) اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2005
15- في مهب دمي ( شعر ) اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2008

للاشتراك في الخدمة الاخبارية من داخل السعودية ارسل الرقم (2) إلى الرقم ( الاتصالات : 809885 ) -( زين : 706505 )
| يرجى الإشارة للمصدر عند نقل الخبر – وكالة أنباء الشعر العربي|

إضافة تعليقك تعليقات (6) Print إخبار صديق Top

شكرا
معد الجبوري

شكرا لصديقيَّ الحبيبين: بيات مرعي القاص والمسرحي المتألق المحلق في فضاء مدينة الموصل وخصوصيتها، والشاعر المتوقد المبدع السكون أبدا باللوعة وهم اقتناص الجديد.
شكرا للأحمدين على هذا التركيز
شكرا لهناء الرائعة على مرورها الكريم
شكرا لوكالة أنباء الشعر المتألقة دوما
معد الجبوري

اشد على يديك
كرم الاعرجي

لقاء جميل ويليق بقمر نينوى الشعري
ومثلما ابدع في مولفاته عبرمراحل زمنه الفائت ، قد صاغ ما يبهر بلغة رشيقة تسوق خطواتها الصور المنتخبة من بنات الخيال ، التي لاتليق بغيره في هذه الاجوبة الفاحصة لواقع المسرح والشعر العربي، وبترو مرتب في الافصاح انه يستحق الثناء ، وهذا سبب تفرده بين أقرانه من الشعراء معاصريه ، فالشغل المتناسق يهب للقارى جذوة ساحرة باوصافها الجمالية المعتمرة بالوان اطيافه الروحية ، التي فغر بها عيون التقليد ، انه يرسم بادق من ريشة الفنان
محبتي للكبير ابدا
الشاعر

معد الجبوري

كرم الاعرجي

القاص والناقد العراقي أنور عبد العزيز

البياتي كان يمتلك قدرة عدوانية خارقة وقاسية حادّة جارحة عندما ينقد أو يطعن الأدباء الكبار خاصة ممن يعرّضون له بالنقد.
في حوار خاص أجرته معه الوكالة : القاص والناقد العراقي أنور عبد العزيز: كانت أحلى الأوقات تلك التي نقضيها مع الجواهري قبل بدء الأمسية وبعدها.
الاثنين, 2008.09.15 (GMT+3)

وكالة أنباء الشعر/ العراق – عمر عناز

حين تنظر إليه تحس أنك إزاء جمهورية من معرفيات الثقافة بما يمتلك من رؤى وتصورات تكشف لك عما أخفته العناوين وسكتت عنه متون الكتب، غضون وجهه تخفي في طياتها صورا ومشاهد ومواقف مختلفة عن مراحل تحكي شريط المشهد الثقافي في زمن انشحن فيه الوسط الأدبي العراقي بحضور الكثير من الأسماء والدوال التي أصبحت فيما بعد دعائم شعرية وقصصية ونقدية أسست لفضيلة الريادة التي مازالت تشغل الوسط الثقافي العربي حتى هذه اللحظة،
إنه أنور عبد العزيز القاص والناقد العراقي المبدع والمثابر الذي مابرحت اجتراحاته الإبداعية تؤكد حضورها على الساحة الثقافية محليا ودوليا،
مازال أنور عبد العزيز رغم كبر سنّه ومعاناته مرض الطنين المستمر في أذنه، شابا في عطائه يكتب وينشر بقدرة فذّة على التواصل، يقتحمك بإبداعه وسمو أخلاقه وحضوره اللطيف،
ما إن تصادفه في الطريق أو أحد الأماكن العامة إلا وبادرك بملحوظة عن نص أو قصة أو مقالة ثم يدسّ يده في كيس يلازمه ليخرج لك مما نشرته له الصحف مؤخرا داعيا إياك إلى وجبة قراءة دسمة ثم يغيب بهدوء وسط الجموع،
ترصّدته عين الوكالة في أحد الأماكن التي يرتادها لتصطاد من سلة ذكرياته هذا الحديث:

– منذ السيّاب والبياتي ونازك الملائكة تبدو مسافة الشعر زاخرة بالتفاصيل، عبورا على جسر الفهرست نلج تفاصيل ذاكرتك فبماذا تتحفنا؟
السياب والبياتي وسليمان العيسى ونازك الملائكة ويوسف الصائغ وعبد الرزاق عبد الواحد ولميعة عباس عمارة وسعدي يوسف كانوا قد تخرجوا في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وأستطيع القول أنني تعرفت على جوانب من شخصية وشخصيات الشعراء الشعراء والأدباء الآخرين من خلال ( اللجنة الثقافية) في دار المعلمين العالية التي كانت قد خصصت وبالتنسيق مع عمادة الكلية يوم الخميس موعدا ثابتا لأماس شعرية رائعة باتت تاريخية الآن ومن الإرث الثقافي الحافل للكلية بالإضافة لدعوة اللجنة لأدباء ومؤرخين وتشكيليين وإعلاميين ولكن غالبية تلك الأماسي كانت للشعر، وكان الجمهور من طلبة الكلية وكليات أخرى وأساتذتهم ومن عشاق الشعر في بغداد، وهي بالإضافة لذلك إستضافت أدباء وكتابا من خارج العراق أتذكر منهم: الدكتورة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) من مصر وكذلك بعدها الأديبان محمد سعيد العريان الذي تحدث عن أدب وشخصية مصطفى صادق الرافعي، ومحمود الخفيف وهما من مصر أيضا، وآخرون من بلدان عربية أخرى..
أماسي الخميس كانت احتفاليات بهيجة مشرقة متألقة صادحة بأصوات الشعر والشعراء..

– أي هذي الاحتفاليات مازال بريق لمعانها يضيء زوايا قلبك النابض بالثقافة؟

دعت اللجنة الجواهري فلبى الدعوة وكانت القاعة الكبيرة غاصّة ممتلئة بجمهور الشعر، وكان وجود الجواهري وطريقة إلقائه وبساطته وإنفعاله وتفاعله مع جمهوره يشكل حالة من السمو الشعري، يعيدك لماضي القرون وكأنك في مواجهة أسواق الشعر الجاهلية، وكأنك تتجاوب مع غنائيات أمريء القيس وعمرو بن كلثوم وطرفة وعنترة وآخرين، وكأنك تستعيد أبهة العصور العربية الشعرية أموية وعباسية وأندلسية مع المتنبي والمعري والبحتري وأبي فراس الحمداني وأبي تمام وابن زيدون..

– لاشك أن بعض أدباء تلك الفترة كان لحضوره بينكم جرسا مؤنسا في فضاء الجلسة فمن ذاك ولم؟

كانت أحلى الأوقات والفترات تلك التي نقضيها مع الجواهري قبل بدء الأمسية وبعدها، فهو كان لتواضعه وبساطته قريبا للروح محبّا للفكاهة مؤنسا..ومثله كان البياتي وكان عيب البياتي- رغم شاعريته الثرية البهيّة- هو ضعف خبرته في فن الإلقاء الشعري، وكان يدرك ذلك ويصرّح به ولايخفيه ويبرّر ذلك بأن طبيعة شعره تأملية مهموسة تصلح للقراءة أكثر منها للإلقاء، والبياتي كان ذا قدرة عجيبة في كثرة الكلام ومع أهمية بعض طروحاته، وهو رغم بساطته وطيبته وانسجامه وفرحه في الحديث مع الطلبة والشباب، فقد كان يمتلك قدرة عدوانية خارقة وقاسية حادّة جارحة عندما ينقد أو يطعن الأدباء الكبار خاصة ممن يعرّضون له بالنقد، كان البياتي شتّاما لأعدائه من مشاهير الأدباء وبلا رحمة فلا يستطيع أحد مقاطعته أمام ذلك السيل الجارف من تجريحاته الأليمة، وكان يسلك نفس السلوك في ( حوارياته ) التي تجريها معه صحف ومجلات بغداد وبيروت ودمشق والقاهرة، والعداء المزمن بينه وبين الجواهري إستمر لسنوات طويلة ومن مصادفات القدر أن يموت الإثنان ويدفنان في بلد واحد مما جعل البيت الشعري للمعرّي ينطبق على حالتهما:

ودفين على بقايا دفين .. ضاحك من تزاحم الأضداد

ضدان في الحياة ومختلفان يدفنان على ارض واحدة ومعهما في كل مقبرة وبلد الآف الآف الأضداد ممن عاشوا أقسى حالات الصراع في الحياة الدنيا…

– وفق معرفتك ماتعليك لهذا العلاقة الضدية بين البياتي والجواهري ؟

البياتي كان يرى في الجواهري شاعرا تقليديا عروضيا ليس عنده غير الطنين والرنين عبر بحور الفراهيدي وكان في حكمه هذا متجنيا على القامة الشعرية السامقة والثراء الباذخ لعطائه الشعري، وكان البياتي يشعر بتفوقه على الجواهري ويكفيه أنه أحد روّاد الشعر الحر والمجدد في أوزان الفراهيدي ومع السياب ونازك الملائكة، وكان الجواهري يسخر من البياتي وثرثرته ويرى فيه شاعرا مغرورا ويعاونه على البياتي الناقد الراحل علي جواد الطاهر،

– الى هذه الدرجة، هل ترى أن خلافهما يستند على تنافر المكونات الشخصية لكل منهما؟

كان البياتي شهواني التدخين يحرق – كالجواهري- سجائر كثيرة في جسة واحدة، هذه الصفة وصفة هجومياته القاسية على منتقديه، الصفتان الإثنتان يبدو أنهما كانتا لصيقتين به ومن هواياته المحببة لديه، ولقد رأيت وسمعت منه ذلك في مهرجان أبي تمام بالموصل سنة 1970 في فندق الإدارة المحلية وفي بيت الراحل الدكتور عمر الطالب، وفي كازينو ( لاباز ) بالقاهرة في نهايات ستينيات القرن الماضي ومطلع السبعينيات وكان معي الصديق الشاعر ذنون الأطرقجي، وكان البياتي يحضر للكازينو ضحى كل يوم وغالبا مايكون معه الناقد الراحل غالي شكري أو الشاعر الراحل محمود درويش أو هما معا وفي أحيان كان يحضر معه الممثل يحيى شاهين، أما سبب وجوده في القاهرة فهو كان لاجئا سياسيا فيها ويتقاضى من الحكومة المصرية راتبا شهريا قدره مائة جنيه…

– في الفضاء تضيء نجمة لامعة بما تحمل من شحنة ضوئية وكذا في الوسط الشعري، فمن كان صاحب هذه الخاصية آنذاك؟

سليمان العيسى فقد كان إنسانا ودودا أليفا يزور دار المعلمين العالية كلما جاء للعراق وكأنه يؤدي طقسا روحيا يستذكر فيه ايامه في الدار وأصدقائه وحبه فيها ويستذكر قصيدته الشهيرة التي ودّع بها الدار وبغداد في حفل التخرّج وكان مطلعها:
أقول وقد أوفى على السفر الركب .. أعام مضى يادار أم حلم عذب
ولميعة عباس عمارة كانت عراقية المشاعر الدافئة الحميمة وهي تشدو بشعرها الرومانسي الفصيح وبشعرها الشعبي باللهجة الجنوبية..
وكان سعدي يوسف رمزا من رموز التواضع الإنساني والشاعرية الحزينة ومحبّة الحضور الذين كانوا يبادلونه أعمق المشاعر والتآلف مع شعره في مضمونه وطريقة القاء الشاعر الطبيعية الحيّة التي تجعل الكلمات موحية بزخم دافع رغم صوته الخافت الهامس…

– والسياب كيف تصنّف حضوره في ذلك الوسط المشحون؟

السيّاب كان يمثل حالة الحزن والخيبة والوجع الإنساني، أتذكّره الآن بوضوح وهو يلقي قصيدة درامية حزينة مرّة بعذاباتها وصورها ومشاهدها الفجائعية، قصيدة كان مطلعها:
من أيّما رئة من أي قيثار .. تنهلُّ أشعاري
وكان في إلقائه يبدو كشاعر من شعراء العصور القديمة، شعراء الإغريق برموزهم وأساطيرهم، أتخيله الآن مستعيدا وجهه وحركاته المسرحية الطبيعية وقد كاد يقع على المنصّة لشدة إنفعاله وميلان جسده وهزاله، لم يكن يهمه رضا الجمهور، ويمكن القول دون تردد أنه كان لايرغب في التقارب مع جمهوره أو مع من يتحدث معهم بأكثر من مسافة محدودة، لااقول أنه كان متكبرا أو مغرورا فأنا أخمن أن عدم ميله ورغبته في التواصل مع الآخرين في حديثه وكما في طبيعة البياتي كان سببه هو تلك الكآبة التي ظلّلت وجهه وروحه،
في سنة 1957 عندما كنّا نتحدث معه ويتحدث معنا، كنت اشعر أننا ازاء إنسان منكوب هو ضحية لأمراضه المتعددة وخيبات حياته السياسية والإجتماعية والوظيفية بعد فصله من عمله في دائرة الموانئ بالبصرة، والأهم الأهم هو حرمانه من حبّ أيّة امرأة له على مدى أدوار حياته، كتب وقال شعرا في الحب تلك العاطفة الإنسانية النبيلة والمؤثّرة فلو توفر له حلم الحب لعاش متوازنا مع الحياة ولكنه واقعيا – رغم كل أحلامه وأشعاره- فقد كان محروما منها وحتى ( شبّاك وفيقة ) قصيدته الشهيرة لم تكن غير أمنيات وخيالات شاعر، فإن أقسى ماكان يعذبه أنه يائس من أن يسمع يوما أن فتاة أو امرأة تحتفظ له دوما بديوان تحت مخدّتها..
عقد السياب كانت مشكلة سايكولوجية مستعصية في حياته، اكتئابه واغترابه وأمراضه وعزلته وتوحده وعدم ميله للإنبساط مع الآخرين يعود سببها – إن لم أخطيء التقدير والتشخيص – الى أن الرجل لم يكن وسيما أو حتى بشكل مقبول على الأقل، وكان هذا همّه وعذابه، بل أنه بجسده الضئيل النحيل ووجهه الصغير الشاحب وأذنيه الكبيرتين وعدم تناسق أعضاء وجهه، ابعد عنه إعجاب النساء، كان طيلة عمره يبحث عن حنان امرأة أو أي اعجاب، حتى أنه كان يتمنى أن يكون اعجاب المرأة بشعره بديلا لصورة الرجل المقبولة في عين المرأة، فلم يحظ حتى بهذا الإعجاب، لذا فقد كان متوترا عصبيا حانقا على الدنيا والآخرين وحتى على نفسه، فقد كسب الشعر بسبب حالته التراجيدية عمق التعبير عن المعاناة الطاحنة شخصيا ونفسيا ووطنيا وحنينا للعراق والبصرة وشطّ العرب ولقرية أجداده وآبائه وأسرته ( جيكور ) ونهرها الجميل بويب..
وفي أواخر حياته عندما كان يعالج في أحد مستشفيات الكويت وحتى وهو مثخن بأمراض شتى فقد توهم حبّ ممرضته له فتغزّل بها، ولكن أيّ غزل وأيّ حبّ، إنه خداع النفس وحب المريض اليائس لممرضته وهي حالة معروفة في كثر من ردهات المستشفيات، فعطف الممرضة لم يكن حبّا، بل شفقة على مريضها العراقي الغريب، وكم كان وقع تلك الشفقة قاسيا عليه عند إدراكه بخيبة مشاعره، فقد كان حنانا مغلفا بالشفقة على إنسان ممزق بشتى الأمراض المؤلمة والتقرحات، كان منتهك الجسد والروح بانتظار رحمة الموت، حبّ المرأة يشترط الرجولة الوسيمة المثيرة وبواقعية التعامل مع الحياة بعيدا عن المثاليات والرومانسيات التي سرعان ماتهمد وتتبدد، ولم يكن عند السياب شيء من تلك الصفات والشروط، لذا اقتنع وآمن أخيرا أن الحل لايكمن إلا في الصبر على البلاء وانتظار الموت الرحيم :
لك الحمد مهما استطال العذاب ومهما استبد الألم
وهو في غيبوباته التي أخذت تتكرر كثيرا قبل وفاته، تنبأ أنه سيعود للبصرة تحت نقرات مطر خفيف، وهو ماحدث فعلا وكما ذكر صديقه الوفيّ الشاعر الكويتي على السبتي في أحاديثه الصحفية يومذاك سنة 1964 والذي كان يعوده في المستشفى مشرفا على علاجه، وقد عاد بجثمانه فعلا ليوصله لأسرته بسيارته الى البصرة وتحت رذاذ من مطر خفيف، ذلك المطر الذي طالما ترنم به في أكثر من قصيدة:
مطر مطر مطر .. وفي العراق جوع
علي السبتي نقل السياب الى وطنه في جو من حزن واسى وشجى لشاعر رقيق على شاعر كبير كان موته خساة كبيرة لوطنه وأمته…

– وسط هذا الحشد من المبدعين تلوح قامة نازك الملائكة شاعرة وأكاديمية، ماقراءتك لأدب وشخصية الملائكة؟

نازك الملائكة كانت قليلة الكلام متوحّدة قليلة الاختلاط بالطلبة خارج الدرس وهي كانت مدرّسة في الدار تحمل الماجستير من أميركا، وكانت تعيش يومها فترة صراع مع السياب حول أيهما الرائد في ( حركة الشعر الحر ) وواقع الحال أنهما كانا متقاربين في كتابة قصائد بالتطوير الجديد والتساهل مع بحور الفراهيدي أيهما كان الأسبق ؟! والإثنان كانا يدّعيان الأسبقية، ليس هناك إشكال فهما تبنيا التغيير الجديد في سنوات متقاربة بينهما، سنة أو سنتين لا أكثر!

– هذا فيما يخص المشغل الشعري، ماملامح التكوين الشخصي لنازك الملائكة؟

الشاعرة والمدرّسة نازك الملائكة لم تكن تنبسط مع الآخرين، كانت ملامح وجهها تحمل أعمق الحزن، وبالامكان القول أنها كانت مصابة بشكل من أشكال مرض الكآبة أو الإكتئاب الذي يقول عنه الأطباء النفسانيون أنّ قليلا منه ضروري للمبدعين بل انه مرض المبدعين في المجالات الأدبية خاصّة الشعرية وكذلك للمبدعين من الرسّامين والنحّاتين والموسيقيين شرط أن لاتكون الكآبة من النوع الشديد المعطّل للانتاج والإبداع،
وكانت نازك الملائكة تحضر دروس الأستاذ الدكتور سليم النعيمي بين وقت وآخر وتجلس في آخر الصفّ لسماع محاضراته في ( التاريخ العربي الإسلامي ) إذ كنا نتلقى ولسنتين من سنوات الكلية الأربعة مادة التاريخ وكذلك إحدى اللغتين: الانكليزية والفرنسية وحسب اختيار الطالب ولسنتين أيضا بالإضافة للمواد المقرّرة من فروع اللغة العربية أدبا ونقدا ونحوا وبلاغة وصرفا وعروضا وإنشاء وفقه اللغة وتفسير القرآن الكريم..

– هل ثمة استدراك تخشى أن يمرق من بين غصون الشجر السامق في بستان ذاكرتك؟

أتذكر عاتكة وهبي الخزرجي فهي كانت شاعرة أيضا ولكن غالبية شعرها كان نظما تقليديا، وهو رغم رومانسياته فقد كان بعيدا عن عمق الشاعرية، والدكتورة عاتكة الخزرجي أيضا من خريجات دار المعلمين العالية وبسنوات قليلة من دفعات السياب والبياتي وشاذل طاقة ويوسف الصائغ وعبد الرزاق عبد الواحد ولميعة عباس عمارة وسعدي يوسف، وهي قد ذهبت للحصول على الدكتوراة من باريس وكانت أطروحتها عن ( العباس بن الأحنف وشعره ) بإشراف المستشرق الفرنسي ( بلاشير ) وكانت معجبة أشد الإعجاب بابن الأحنف خاصّة في غزلياته، وكانت حادّة صارمة في تعاملها مع الطلاب، وكنا معها في أشد الحذر لعدم المساس بسيرة ابن الأحنف وغزله ولو بكلمة من النقد النزيه.

– نعود إلى دار المعلمين العالية بوصفها المؤسساتي، أين هي الآن وما تقييمك لدورها بعد مسافة من سنوات طوال؟

لمناسبة الحديث عن هولاء المبدعين فإن دار المعلمين العالية ( كلية التربية حاليا ) بقدر مانهضت بمسؤوليتها في تخريج أعداد كبيرة من المدرسين لثانويات العراق، ومنذ عشرينيات القرن الماضي وفي مختلف الإختصاصات العلمية والأدبية، فإنها كانت ومنذ تأسيسها حاضنة تفريخ نشيطة ومؤثرة لكثير من الشعراء الذين نالت غالبية منهم شهرة في عموم الوطن العربي وعالميا لبعضهم وهم: السياب، البياتي، سليمان العيسى، شاذل طاقة، يوسف الصائغ، نازك الملائكة، عبد الرزاق عبد الواحد، لميعة عباس عمارة، سعدي يوسف، صلاح نيازي، ياسين طه حافظ، فاضل العزاوي، عبد اللطيف أطيمش، محمود الجادر، نسرين محمد فخري، فائز الزبيدي، ذنون الأطرقجي، وآخرون غيرهم،
وبسبب الجو الأدبي –خاصّة الشعري- الحميم في الدار وللجذب الشعري الذي امتازت به، فقد كنت ترى العديد من شعراء وأدباء الكليات الأخرى متواجدين في نادي الدار وفي زاوية أثيرة منه حيث اللجنة الثقافية وكان من أكثر هولاء تواجدا وحضورا الشاعر الراحل رشدي العامل الذي يأتي من كلية الآداب في منطقة الأعظمية إلى الوزيرية حيث موقع الدار وأقسامها الداخلية، والقاص الراحل غازي العبادي من معهد اللغات العالي القريب من الدار والشاعر حسب الشيخ جعفر الطالب في ثانوية العمارة قادما لزيارة أخيه في الدار وللقاء بشعراء الكلية الذين يعرفهم ويعرفونه.. بعد هذا ألا تستحق هذه الدار التي كرّست نفسها للتعليم التربوي ولنشاطها الشعري أن تحافظ وتبقى على اسمها القديم العتيد : ( دار المعلمين العاليــة ) كلية رائدة ، ألم تكن هي ومعها كلية الحقوق والطب نواة لتأسيس جامعة بغداد فيما بعد..
نقرأ ونسمع أن أمما ودولا حافظت وأبقت على أسماء ذهبية لكليات عريقة جاوز عمرها المائتي سنة وأكثر لتحظى بصفة الخلود: خلود الإسم وخلود الذكر لمنجزاتها العلمية ولشعرائها وللشخصيات النتخرجة فيها والتي تبوأت مواقع سياسية وثقافية واجتماعية مهمة، لم لايكون للعراق مثل هذه الذاكرة ليعيد لاسم دار المعلمين العالية زهوه وحضوره،
أما عن كليات التربية فهي ليست قليلة في وطننا ولاتخلو أية جامعة من واحدة منها وفي عموم القطر..

– عفوا أستاذنا الكريم .. لحديثك نكهة مميزة، لكننا نخشى أن نكون قد أثقلنا عليك بفضولنا الصحفي الذي أشبعته بتفاصيل مدهشة.. نشكرك ونتمنى لك عمرا مديدا وعافية موفورة..
شكرا جزيلا

الشاعرة سعدية مفرح

في حوار مطوّل معها ..
الشاعرة سعدية مفرّح للوكالة : المؤسسات الثقافية احتكرت الثقافة وأنصح بعدم سماع نصيحة أحد .. وأستاذي في الجامعة يعاني من مشكلة تجاه ما أكتبه
الاثنين, 2009.07.20 (GMT+3)


قررت أن أكون شاعرة في الثانية عشر من عمري !
لا اعرف كيف يمكن أن يخطط احدهم لكتابة قصيدة
في الشعر تحديدا لا انصح إلا بعدم سماع نصيحة احد ..ا
المؤسسات الثقافية في المشهد العربي احتكرت الثقافة
الدكتور سليمان الشطي يعاني من مشكلة تجاه ما اكتبه
لست من أنصار البكاء على الأطلال لكنني لست من أنصار هدم هذه الأطلال

وكالة أنباء الشعر – حاورها : عمر عناز

كان حمام الدوح يرتسم أفقا من هديل بلون أجنحة الملائك وكانت فراشات المعنى تؤثث المتون بدهشة من ألق وكانت تجري مابين ضفة بوح وضفة أخرى أنهر من خيال وكان كل حرف منشغلا بموسقة تشكيله، في تلك اللحظة من عمر الكلام ولدت ” سعدية مفرح ” شاعرة من تنهدات موج الخليج وناقدة من حلاوة تمر التاؤيل والكشف والافتراض وصحفية من عبق الخطاب الإعلامي الذي تزهو وتسمو به ثقافتنا العربية،
سعدية مفرح .. حضور غير تقليدي على خريطة الإبداع الذي ينهل من معرفية وسعة اطلاع اشتغلت على الإحاطة بحقولها المكتنزة عبر رحلة في عالم من سحر البوح الذي استطاعت عبر تقانتها المبدعة أن تغزل منه نصوصا مورقة كلما سافر القارئ في فضاءتها تبدت له عوالم تشي بعمق تجربة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
كنت قد قدّرت قبل حواري اليها أن باستطاعتي أن أحيط بالكويت عبر إطلالة عجولة من أعلى احد الأبراج الكويتية الثلاثة استقرء خلالها الملامح واستجلي التوصيفات ، بيد أني وبعد هذا التجوال في عوالم سعدية مفرح تأكد لي أن من مقومات اكتشاف الكويت أن تطل على المشهد من عيني سعدية مفرح فهي بعيدا عن جمادية التشكل وقريبا من جمالية التأمل وإنسانيته تعد – وفق رؤيتي المتواضعة – البرج الرابع الذي بفناره يُهتدى الى شاطئ الإبداع..
تتسع الكويت جغرافية محتفية بحضور سعدية وعطائها وتبتهج بتميزها الذي شكّل لها اسما له بريق التفرد على امتداد الساحة الثقافية..

هل استطعت أن أقدم لكم سعدية مفرح كما تعرفت اليها أم ضاقت بي لغة الوصف فجنحت الى هذا الحوار الذي أضعه بين أيديكم متوّجاً برسائل ود حملها لنا الأساتذة سليمان الفليح ودخيل الخليفة وصلاح دبشة وعبدالله الفلاح والتي حاولنا أن ندسها بلطف داخل هذا الحوار المكلل بالود والورد والسحر الحلال

مع سعدية مفرح …

**” قررت أن أكون شاعرة” هكذا تقولين في سيرتك المؤجلة، وقررت أن أستفهم منك عن ماهية التكوين الشعري – الماورائي بالضرورة – استنادا على قرار عقلاني مجسد تقررينه بوعي مطلق؟

ـ القرار الذي تشير اليه تلك العبارة المستلة تعود الى الطفولة تقريبا ، لقد قررت فعلا أن أكون شاعرة بوعي طفلة في الثانية عشرة من عمرها..كنت اقرأ كثيرا آنذاك وخصوصا في كتب التراث..حتى أنني انتهيت من قراءة كتب الجاحظ ومقدمة ابن خلدون وكتاب أسواق الذهب للمسعودي و أجزاء كثيرة من الف ليلة وليلة وأنا في تلك السن ..ومن خلال القراءة تسللت الى عالم الشعر، ولعلي تيقنت حينها أن الشعر يمكن أن يحقق لي مجدا مجانيا غير مكلف، كنت انساق وراء أحلام الشعراء وسماواتهم الذاهلة..كنت مجرد طفلة سادرة في الحلم ،وأراني الآن ما زلت تلك الطفلة اللاهية في حلمها الشعري حتى وان بدا لي وللبعض أحيانا غير ذلك، وكلما كدت اصدق أن الحلم اقترب أن يكون حقيقة أجده يمد لي لسانه ساخرا من قلة حيلتي وهواني على القصيدة، وكلما خيل الي أنني أكاد ألمسه بمحض ما أملك من موهبة يركض أمامي كطريدة ..لكنني بصراحة أشعر أحيانا أنني الطريدة وهو الصياد.

**بين من يرسم مسارا لقصيدته ويخطط لبنيانها ومن يطلق لها العنان دون منهجة أو تحضير مسبق، كيف تقرّر سعدية مفرح قصيدتَها أو كيف تقرّرها قصيدتُها؟
ـ لا اخطط لقصيدتي أبدا لسبب بسيط هو أنني لا اعرف كيف يمكن أن يخطط احدهم لكتابة قصيدة … على الرغم أنني اقرأ فعلا أحيانا بعض هذه القصائد المخطط لها مسبقا، فأشعر في التو واللحظة أنني اقرأ في ورقة رسم بياني!
لحظة الإبداع تأتيني ببساطة وهدوء وجمال وربما مع كل هذا الكثير من الألم ..ولكنها غالبا ما تأتيني في لحظات ضعفي كأن أكون مريضة مثلا …فأشعر أنني بالكتابة والشعر استقوي على المرض والضعف، أكره لحظات المرض والضعف، ولذلك أحب الشعر الذي يجعلني استقوي على تلك اللحظات ولو بمزيد
من الألم، الألم الممزوج بلذائذ لا تنتهي، وهكذا تستحيل اللحظة الشعرية إلى لحظات استدراج للذة غير المتناهية . من أين أبدأ الكتابة ؟ سؤال لا أستطيع الإجابة عليه بتحديد يليق بموضوعيته، ولكنني أستطيع أن استشعر تلك البدايات عندما تريد أن تجيء، صحيح أنني لا أستطيع استدعاء تلك اللحظات لحظة أريد، ولا بالشكل الذي أريد، ولكنني أدعي أنني أحاول دائما استقبالها كما يليق بها.
وأحيانا يتعلق الأمر ببعض المثيرات أو المحرضات، لكن المثيرات لا تشغلني بقدر ما يشغلني مدى إثارتها لي ، ومدى نجاحها في أداء مهماتها .. بشكل عام تستحثني القراءة على الكتابة ، ليس مهما أن تكون قراءة شعرية ، بل الأفضل ألا تكون كذلك ، أقرأ كثيرا بل كثيرا جدا ، وهي عادة متراكمة لدي منذ الطفولة ، لا أشعر بقيمة اليوم إن مر دون أن أقرأ فيه ما يتجاوز القراءات التي تفرضها علي اشتراطات عملي في الصحافة الثقافية، أعني أن تلك القراءات التي يتطلبها العمل ، وهي كثيرة ومتنوعة وأحيانا مزعجة ومفروضة ، لا تغني أبدا عن خياراتي الخاصة في القراءة . وغالبا ما تكون القراءة هي لحظة الشعور بالوحشة الذي يرسم أمامي خريطة الكتابة باعتبارها المنقذ من ذلك الشعور وباعتبارها المهمة القادرة على استدراج الدهشة في رتابة زمنى اليومي.

**تبدو قصيدتك متدفقة المشاعر مزدحمة الصور والدلالات، هل ثمة تقانة خاصة تعمدين إليها في اشتغالك للتوفيق بين كل هذه العناصر الفنية؟

ـ لا..اكتب قصيدتي بشكل عفوي جدا كدفقة أولى قبل أن أعود إليها وخصوصا القصائد الطويلة..
لكن دعني اعترف إنني لم أتوصل لذلك إلا مؤخرا، في الدواوين الثلاثة الأخيرة فقط تقريبا، قبلها كنت أهتم كثيرا بالشكل العام لقصيدتي ، ولعلي انساق في رؤى معينة قبل كتابة القصيدة أو أثنائها حتى..
الآن قد تتخلق قصيدتي انطلاقا من فكرة لغوية أو موسيقية معينة .. تتطور إلى أن أجدها وقد اشتعلت بين يدي على قصيدة واضحة المعالم ، وان كانت بحاجة الى الكثير من النحت اللغوي والفكري والموسيقي والذي الجأ إليه غالبا بعد فترة من كتابتها لأول مرة ، أنها لحظة ملتبسة وغامضة عموما ، فلحظات القصيدة تصنع مثيراتها بذاتها ، و يصير المثير جزء منها ، وتصير هي بعد كل تقدم في لحظات تكونها إثارة جديدة وإضافية .

الأديب سليمان الفليح : لقد كان بيني وبين الشاعرة المبدعة سعدية مفرح فجوة سطحية امتدت وللأسف الشديد سنوات عدة وهي من وجهة نظري تندرج في المزاج الأدبي ليس إلا ولكني أراها حقيقة شاعرة مكابدة ومنجز ثقافي لم يعط حقه في الوسط الأدبي في الكويت بقدر ما أخذ في الخارج لذا فإنني أتأسف لتلك الأعوام التي خلت ولم أنصفها بما تستحق .

**تعرفت خلال مسيرتك الشعرية على الكثير من الأسماء التي انطفأ بعضها وخفت بعضها ومازال البعض الآخر مضيئا في المشهد، من الذي مازال حضوره الشعري حيا في ذاكرتك؟

ـ من أضاء ذاكرتي منذ الومضة الأولى لقصيدته مازال يسكن تلك الذاكرة المرهقة ..كثيرون فعلوا هذا وما زالوا يحتلون مساحات شاسعة من الذاكرة..ورغم أنني أعاني من النسيان كحالة مرضية ربما إلا أن الحالات الجمالية وحدها تستطيع مقاومة النسيان لدي.

**قديما كان يقال ان الشاعر لسان حال قبيلته، هل ترين ونحن في غمرة الثورة المعلوماتية التي تكاد تذيب الهوية أن وظيفة الشاعر القومية مازالت هي ذاتها أم تغير الموقف بتغير الحال؟

ـ لست أصدق أن للشعر وظيفة ، أعني لا ينبغي أن تكون له وظيفة ، فالشعر يستحق أن يكون لأنه شعر وحسب، ولن يحتاج لأي عصا يتكأ عليها أو يستعملها في منافع أخرى ..وهذا ليس له علاقة بالثورة المعلوماتية أو أي ثورة أخرى بقدر ما له علاقة بطبيعة الشعر كقيمة جمالية وبهويته وضرورة احترامنا له، خاصة وأنني بعد قراءة للتاريخ العربي المعاصر أصبحت أكثر حساسية لمفردة الثورة في أي سياق تأتي، اشعر أحيانا أنها مرادف للقبح و العشوائية والصدفة والتلاشي في نهاية الأمر..وهذا يحيلنا الى بعض الوظائف التي يقترحها البعض للشعر مثل الوظيفة القومية للقصيدة والتي أنهكتها تماما، وسحبت الكثير من رصيدها الجمالي في الواقع العربي حيث وجد الشعراء العرب في فترة من الفترات أنفسهم منساقين وراءه ويكتبون قصيدتهم على ضفافه مما أضر بهم وبالقصيدة.

**لعلني الحظ في خطابك الشعري صوتا إنسانيا يخاطب الجميع ويعنيهم، بينما يرتسم الخط الايديولجي بوضوح في قصائد أخرى مؤسسا لخطاب محدد الوجهة، في أي زاوية تقفين ومن تخاطبين؟

ـ لست من أنصار القصيدة البيان ، لكن الشاعر لا يتخلص من ارثه في التكوين الفكري ولا ينبغي له ذلك ، هو مجموعة من تراكماته المعرفية والاجتماعية والإنسانية والثقافية، لكنني شخصيا لا يهمنى سوى أن أظل راعية لبهاء المفردات في مفازات الدهشة ، ولا يهمنى سوى أن تظل الدهشة في الكتابة هي اليقين الأول ، واللذة الأخيرة.
قصيدتي هي جمرة تتلظى على يقين المتعة ، ومحاولة دؤوب للنبش في السر القصي للكامن فينا كبشر…قصيدتي هي أنا في التجلي الأخير لي، ولا ادعي أنها تعبر عن أيديولوجية معينة إلا بقدر تعبيرها عني وعما يكونني معرفيا وإنسانيا.

**هل استطاعت طروحاتك النقدية أن تواكب توهج قصيدتك أم لاضرّة للقصيدة؟

ـ على الرغم من دراستي الأكاديمية للنقد إلا أنني لا اعتبر نفسي ناقدة بشكل محترف ، بل أكتب النقد من منظوري كقارئة وحسب، وهي مهمة استمتع بها كثيرا .
وبالمناسبة لعلك لا تعرف أن الضرة الأولى لقصيدتي ليست النقد بل الصحافة، ولعلك لا تعرف أن الصحافة هي عشقي الكبير …وأحيانا كثيرة أجدني أفضلها على كل شيء بما في ذلك الشعر ..أقول أحيانا.

**إلى أي مدى استطاعت المؤسسة الثقافية أن تنهض بواقع الأدب والأديب، وهل ثمة ماتؤشرينه سلبا على سياسة العمل الثقافي التي انتهجها السابقون أو اللاحقون مؤسساتيا؟
ـ على الرغم من الايجابيات التي يمكن الحديث عنها في إطار ما قدمته المؤسسات الثقافية في الوطن العربي للثقافة إلا أن سلبياتها كثيرة وخطيرة ..
ومن أكثر سلبيات المؤسسات الثقافية في المشهد العربي هو أنها احتكرت الثقافة وحولتها أو كادت الى نوع من الواقع الرسمي مما ساهم في تهميش كل ما هو خارج أسوار المؤسسة الثقافية الرسمية من مسرح وسينما وحركة نشر وأدب أيضا ..أي أن المؤسسة أممت كل أشكال الإنتاج الثقافي تقريبا خصوصا في قطاعات العمل الثقافي ذي الطبيعة الجمعية كالطباعة والنشر والمسرح والسينما.
وطبعا لا يمكننا الحديث عن منافسة حقيقية من جهات ثقافية غير رسمية ، مؤسسات الثقافة الأهلية مثلا ، فالقطاع الثقافي العام يملك إمكانيات كبيرة هي إمكانيات الدولة وبالتالي لا يمكن منافسته بشكل حقيقي وثابت ومتراكم.
من هذه الإشكاليات أيضا خلط ” السياسي” بـ ” الثقافي ” مع ما يعنيه ذلك من إخضاع الثقافة للقرار السياسي للدولة المعنية ، وبالتالي تحويلها، أي الثقافة ، إلى أداة صراع سياسي ، داخلي وخارجي .
و الإشكالية الأخرى التي أود أن أشير إليها باعتبارها نتيجة طبيعية لظهور هذه المؤسسات الثقافية الرسمية هي خلط ” الثقافي ” بـ ” الإعلامي ” وصولا إلى إخضاع الثقافة لضرورات المعركة الإعلامية التي تتلاءم مع خصوصية الثقافة وضرورة الحفاظ على استقلاليتها .

صلاح دبشة
صلاح دبشة : سعدية مفرح هي من فتح الأبواب الواسعة للإبداعات الكويتية الحديثة , وكان لها إسهامات بارزة في تكوين جيل التسعينات في الكويت والجيل الذي تلاه , تملك روحاً عالية الشفافية في كتابة الشعر , ولديها قدرة فائقة على التقاط اللحظة الشعرية وتجسيد الرؤية , وهي أول من أسس لقصيدة النثر في الكويت .

**يزعم البعض أن المثقف محكوم بعدم التقاطع مع خطاب السلطة وفق أي فهم ثقافي يذكر، ماصحة ذلك؟ وهل الممنوح من حرية يتناسب والفاعلية المرجوة للخطاب الثقافي ؟

ـ يحدث هذا في البلاد غير الديمقراطية وهو واقعنا العربي كله والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، لكن الهوامش تختلف مساحاتها هنا وهناك باختلاف مساحة الديمقراطية هنا وهناك ..وبالتأكيد سنظل دائما نترحم على روح الكاتب الراحل يوسف ادريس الذي صرخ ذات يوم باسم الجميع قائلا إن كل الحريات الموجودة في الوطن العربي لا تكفي مبدعا واحدا..لقد قال يوسف ادريس تلك العبارة قبل عقود من الزمن ، وما زال الوضع باق على ما هو عليه ..

**ألم تسهم المؤسسة الثقافية في تصدير الكثير من الأسماء غير الجديرة وفق فلسفة المعارضة والموالاة؟

ـ دائما تفعل المؤسسات ذلك، أصلا هذه هي وظيفة المؤسسات التي تصر الدولة الميزانيات من اجلها غالبا،. لكن المؤسسات مسكينة فهي دائما، ولحسن الحظ، تفشل في أداء مهمتها تلك بالشكل الذي تحلم به، أو يحلم القائمون عليها به، فقد قدمت هذه المؤسسات مواقع مهمة وشهرة مدوية لأسماء شعرية وروائية ومسرحية وسينمائية لا تستحق ما هي عليه ، كما قدمت حماية وترويجا لانتاجات ما كانت لتعيش وتستمر وتنتشر في ظروف عادية ، والأمثلة على ما نقول كثيرة ، وهي لا تقتصر على بلد معين دون غيره ، بل نستطيع أن نتتبع تجلياتها في كل الدول العربية دون استثناء .
وهذا الوضع انشأ بيروقراطية ثقافية لها امتيازات تدافع عنها مما أدى إلى تهميش الأسماء الجديدة التي لا تستطيع الانخراط في الحياة الثقافية المسيطرة باستمرار .
كما خلط القطاع العام الثقافي في شكله العربي بين الثقافة والأدب وجعل منهما شيئا واحدا ، وهذا خلط شائع في عالمنا العربي ساهم ويساهم في تغليب الاعتبارات الأيديولوجية على الاعتبارات الفنية التي تخضع لمعايير مختلفة . وهو الأمر ساهم في إفراغ المؤسسات الثقافية من مضمونها الحقيقي وتحويلها إلى أجهزة توظيف يحل فيها الإلزام مكان الالتزام والموظف مكان المثقف …الخ . أي أن هذه المؤسسات أدت إلى خلق احتكار ثقافي يخنق ثقافة المجتمع بدل أن ينميها . ولذلك لا بد من ضوابط لعمل المؤسسات الثقافية الرسمية وحصره في إقامة بنى تحتية ثقافية من مطابع ومسارح ومختبرات ……دون إغفال ضرورة أن تؤمن هذه البنية استقلاليتها المادية ، ولا تضطر للعيش على المال العام دون مردودية حقيقية .

**على امتداد ما أرّخت من حضور شعري، هل كتبت القصيدة التي تريدين أم مازلت تقترفين الكتابة بحثا عن جديد ومختلف؟

ـ طبعا لا …قصيدتي الأخيرة هي قصيدتي المستحيلة .لكن هذا لا يعني أنني لا اعترف ببعض القصائد التي كتبتها ولامست الكثير من شغاف الأسى في روحي مثلا ، فالقصيدة تظل شاردة في فيافي الغياب في محاولات لاستفزاز الحضور ، وما على الشاعر سوى الاستجابة لغواياتها السادرة في التيه. أنا أعيش متعة المحاولة على الأقل.

**ماتقييمك للمشهد الشعري الكويتي الراهن وهل استطاع مبدعوه إلى يحصلوا على المكانة التي يستحقون على خريطة الشعر العربي؟

ـ المشهد الشعري في الكويت يتساوق مع نفس المشهد في البلاد العربية الأخرى ، شخصيا أرى أن المشهد الشعري العربي بشكل عام مشهد يمكن الشعور بالتفاؤل تجاهه ، وهو مشهد رغم كل السلبيات
المحيطة به والمحبطة لعناصر تشكيله ما زال يستطيع أن يكون صورة مشرقة عن واقعنا العربي . في الكويت هناك الكثير من الأصوات التي أثبتت وجودها محليا وعربيا ، وأصبحت تتمتع بتجارب تشابه تجارب الجيل العربي الذي تنتمي إليه سواء أكان ذلك على صعيد الشعر أم القصة والرواية أم التشكيل أم المسرح . ولكننا نعاني في الكويت من تخلف الحركة النقدية مقارنة لها بالحركة الإبداعية من جهة ، وبالحركة النقدية السائدة في دول الجوار العربي من جهة أخرى .

**ينشط الأدباء الشباب في الكويت في تقديم صورة حية للشعر، كيف تقرأين حضورهم وماالبرقية التي تريدين أن ننقلها عنك اليهم؟

ـ حضورهم جميل ومبهر، ولست أفضل منهم لأنصحهم …في الشعر تحديدا لا انصحهم إلا بعدم سماع نصيحة احد ..الشاعر الحقيقي هو الشاعر المخالف للسائد.. المعترض عليه.

**يكثر الحديث عن الحداثة وماقبلها ومابعدها وتترى التنظيرات التي تناقش هذه الموضوعة، بأي فهم تترجم لنا سعدية مفرح حداثة نصّها ؟

ـ لا تشغلني كثيرا ولا قليلا حداثة نصي..ولا انظر اليه باعتباره نصا حداثيا او حتى جاهليا .. لا يعنيني سوى انه النص الذي اكتبه كما اشتهي ومن دون اشتراطات مسبقة ولا تحضيرات جاهزة.

دخيل الخليفة

دخيل الخليفة : سعدية قائدة الجيل التسعيني في الكويت – نبوغها المبكر دفعنا للتفوق , كما أننا اتكأنا كثيراً على على وجودها رئيسة للقسم الثقافي في صحيفة الوطن ثم القبس – واستفدنا أيضاً من حضورها الطاغي عربياً – سعدية مفرح اسم نتشرف به .

**لايتصالح النص النثري مع أي توهج للإيقاع الخارجي لارتكازه على مايسمى بالإيقاع الداخلي الذي يبدو انك تجاوزت محدودياته في نصوصك حتى لكأننا نتلمس صوت القافية… ما السر في ذلك؟

ـ أنا مفتونة بالموسيقى ..غالبا اكتب نصوصي على هوامش موسيقية تسكنني ، وكثيرا ما ارتجل ألحانا ..على وقع الكتابة حتى لو كانت مجرد مقال صحفي.
دائما أجدني مزدحمة بالموسيقى ، ومتفانية في خدمة الكلام وفقا لأنغام الأحرف وتموجات الحركات، وطبعا لغتنا العربية موسيقية بطبيعتها المروية بالحركات وأحرف العلة المتباهية بقوتها على بقية الحروف مما يعطي الشاعر الكثير من المرونة الموسيقية وهو بصدد القصيدة.
كتبت القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، وزاوجت في بعض قصائدي بين أساليب كثيرة وركنت لقصيدة النثر انحيازا لرهافة اللحظة وكثافة الشعرية أحيانا.
ولكن دعني أقول لك انني استخدم هذه مصطلحات العمودية والتفعيلة والنثر في إجابتي الآن لضرورات توضيح الإجابة بما يتواءم ونص السؤال لأنني عادة ً انفر من ذلك التأطير واشعر أن القصيدة أكثر بساطة من تعقيدات الإطارات وأكثر عفوية من المصطلحات والتسميات والعناوين.

**منذ “آخر الحالمين كان” مرورا بـ”كتاب الآثام” حتى “ليلك المشغول بالفتنة”، هل ثمة ما يصل بين كل هذه المثابات تقصدته، أم هي انثيالات غير ممنهجة وفق فهم كل شيء له علاقة بكل شيء حسب بارت؟

ـ لعلها كذلك .. عندما استعيد تاريخ كتاباتي الشعرية افاجأ أحيانا بنوع من التتابعات المرحلية في قصيدتي ، لم اقصدها وربما هي مجرد انثيالات غير ممنهجة كما تعبر في سؤالك لكن الراصد قد يرصد شيئا من الدأب العفوي على التطور..أنا شخصيا لا يهمنى سوى أن تظل القصيدة حضورا في غياب المعنى ، وغيابا أبديا في اكتمال الحضور.

**على الرغم من الإرث المعرفي الذي تركه لنا الجرجاني والقرطاجني مازال خطابنا النقدي يتعكز على استعارات من نظريات قد لاتوائم تجليات النص العربي، ومازالت الأصوات تتعالى مسائلة عما أنجزه الناقد العربي باتجاه الوقوف على نظرية نقدية حديثة… ماذا تقول سعدية مفرح في هذا الخصوص؟

ـ لست من أنصار البكاء على الأطلال لكنني لست من أنصار هدم هذه الأطلال ، هناك دائما صيغة للتجاوز تؤلب ما يبهت من الأطلال وتعيد صياغتها باشتراطات راهنة.
عندما كنت طالبة في الجامعة كان الدكتور جابر عصفور يعلمنا نظرية النظم لدى الجرجاني ضمن مادة النقد الحديث، ومن خلال دروس ذلك الناقد العظيم تعلمت كيف يمكنني أستعيد القديم بذاكرة حديثة ، وكيف أنظر للجديد عبر تلك النظريات القديمة..لا شيء يتغير ولكن نحن من نتغير وعلينا أن ننظر لكل الأشياء والمعاني من خلال تغيرنا.

**من خلال قراءتك للمشغل النقدي العربي، هل دخلنا فضاء الجدية أم مازلنا نضرب في فيافي المجاملات والمحسوبيات؟

ـ هناك الكثير من المحسوبيات والقليل من الجدية ، ولكن الجادين في النقد العربي قادرون على خلق مناخ نقدي صحي بمحض الدأب والاجتهاد..أنا متفائلة من المشهد النقدي العربي رغم كل شيء.

**تقولين في مسافة من البوح “أشعر باللاجدوى من كل شيء” ما الجدوى التي تنشدين تحقيقها؟

ـ أحيانا فعلا اشعر باللاجدوى من كل شيء، وطبعا ليس لدي تعريف مدرسي لهذه الجدوى التي الاحقها أحيانا ، وأتناساها أحيانا أخرى كي استمر في استنزاف اللذة من فتافيت الحياة من خلال قصيدة أو فنجان قهوة أو مساحة من الوقت مع صديق أو حكاية ممتعة أو ربما لوحة سادرة في ترف اللون.

**في كتابه ” الشعر في الكويت” يصنف الدكتور سليمان الشطي ماتكتبه الشاعرة سعدية مفرح ضمن عنوان ” النص المجاور” مما يوحي بإشارة ضمنية الى إشكالية الانتماء الرسمي لسعدية والتي كانت سببا في حرمانها من الكثير من الاستحقاقات وهي المبدعة على صعد محلية دولية..بماذا تعلق سعدية مفرح على ذلك خصوصا أن الكثير من الأصوات الأدبية تعالت مؤازرة لك؟

ـ يقول الشاعر “لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها // ولكن أحلام الرجال تضيق”..وأقول ليست أحلامهم فقط… بل كتبهم النقدية أيضا!!. طبعا الأمر مضحك ولكنه ضحك كالبكا!! لا مشكلة لدي لكن يبدو أن الدكتور سليمان الشطي هو من يعاني من مشكلة تجاه ما اكتبه، فقد احتار في تصنيفه وفقا للقوالب الجاهزة لديه فاجتهد في صناعة هذا الإطار الذي لا معنى له وهو لم يجتهد حتى في تعريفه مثلا ولا احد يدري حتى الآن ما معنى النص المجاور ولا هو مجاور لمن؟. صحيح ان الشطي الذي يعتبر أحد أساتذتي في دراستي الجامعية أشاد بتجربتي الشعرية وتناولها بإيجابية شديدة لكنه وضعها في إطار مبهم لأسباب لا تتعلق بالشعر ولا بالنقد..

عبدالله الفلاح
عبدالله الفلاح : سعدية مفرح … حكاية الشعر الجميلة .. وقنديل الثقافة والبهاء . شاعرة مهمة .. بل اكاد أجزم بأنها اكثر من مهمة . وصحافية .. بإمكانها ان تجعلك ترى الوعي ماء يتسلق الجداران، الحديث عنها طويل .. ولا يختصر . هي النموذج الأكثر أهمية .. في الخليج . وهي ملح المشهد الثقافي الكويتي

**صدور عدد من الصحف الكويتية الجديدة خلال السنتين الماضيتين , إلى أي مدى أسهم في خلق تنافس عبر الصفحات الثقافية بين الجديد والقديم؟

ـ ليس كثيرا، فأغلب الصحف الجديدة وبعض القديمة لا تهتم بالثقافة ولا بصفحاتها، حتى أن كثيرا من هذه الصحف صدرت من دون صفحات ثقافية على الإطلاق …
لقد عملت طويلا في الصحافة الثقافية في الكويت وأشرفت على إصدار ملاحق ثقافية أسبوعية وشهرية …لكن هذا كان سائدا في ثمانينات القرن المنصرم تحديدا ، ومنذ منتصف التسعينيات تقريبا اختفت الملاحق الثقافية وبعدها كثير من الصفحات الثقافية ، لان بعض أصحاب الصحف اكتشفوا فجأة أن الثقافة غير مهمة وليست جاذبة للإعلان، وطبعا هذا غير صحيح حتى وفقا للمفهوم الإعلاني ، فالصفحات الثقافية علاوة على أهميتها وضرورتها للقراء ، بغض النظر عن عدد قراء الثقافة، تعطي الصحيفة نوعا من البرستيج أو القيمة التي تكرس صورتها لدى القارئ وبالتالي لدى المعلن.

**هل تستدركين بكلمة تودين إيصالها لضفة لا نعرفها؟

ـ كل الكلام المؤجل لضفة سماوية مجهولة العنوان أمضيت عمري في البحث عنها.

الشاعر العراقي غيلان بدر شاكر السياب

في حوار خاص ومميز ..
غيلان بدر شاكر السياب للوكالة: والدي أكل نفسه حين دخل المعترك السياسي في العراق.. ولا أدري إن بقي من بويب شيء بعد أن شاب وشابت جيكور.. وذاكرتي تحمل العديد من الأحداث المتعلقة بحياة أبي
الجمعة, 2010.04.09 (GMT+3)

وكالة أنباء الشعر/ عمر عناز

بينما ينهمر بويب ملونا بموجاته ضفتين من شعر يضيء صوتُ السياب قنديلا على شباك وفيقة مشاكسا بارتعاشته شناشيل بنت الجلبي.. السياب الذي مازالت أنشودته الماطرة تنهمر على صحائف قلوبنا لتخضر بنا الآمال وتورق الأمنيات يطل عبر مسافات ضوئية من الشعر حاضرا بيننا .. متهجدا بلغة تختزن سمرة أرض البصرة وبياض قلوب أبنائها، لغة عشقت البلح فمنحها معنى سكّريا، نعم إنه السياب متجليا في ابنه الذي طالما حدثنا عنه عبر قصائد وادعة المبنى دامعة المعنى… إنه غيلان بدر شاكر السياب .. أيقونة تحمل روح الشاعر الكبير ..ابنه الذي ينبض بالكثير منه كما نبض به أبوه ذات شعر، لم تكن مصادفة أن تلتقيه وكالة أنباء الشعر العربي لكنه دأب الذي يسعى جاهدا للاحتفاء برموز الشعر وكل ما يتعلق بهم من شؤون وشجون وابتسامات أورثوها دون الشعر الذي هو ماسة التفرد فكيف إن كان السياب هو الموضوع مصافحا جمهور الشعر بكف فلذة كبده غيلان عبر هذا الحوار…

-غيلان .. ورد اسمك في قصيدتين من قصائد والدك الشاعر الكبير بدر شاكر السياب.. ترى ماذا يعني لك أن يذكرك شاعر بقامة السياب؟

أنا أرى معنى أكبر في ذكر أبي لي في قصائده كأب أولا قبل أن يكون شاعرا وشاعرا فذا. تلك القصائد رسائل تجتاز الزمن وأسمع كلما قرأتها رنة صوت أبي وأحس بدفء عاطفته.

-كنت صغيرا عندما توفي السياب – رحمه الله – ولاشك انك عندما كبرت سعيت للتعرف على شخصية الوالد من خلال والدتكم أو الأقارب والأصدقاء.. لنبدأ بما تذكره أنت وما روته لكم أمكم عن السياب .. ؟

ما أذكره أضن به جدا وأراه كنزا يخاف عليه صاحبه من العيون الغريبة لا سيما أن حياة أبي وسيرته قد أشبعت بحثا وتحليلا بحق وباطل نالا حتى النوايا أو افترضا نوايا إن تعذر وجود أدلة على حدث ما ولذلك أحب أن أحتفظ بكنزي هذا لنفسي ولأسرتي ولا أجعله مشاعا ؛ فمعذرة لعدم الاقتراب من تلك التفاصيل.

-في لقاء مع صديق والدكم الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد قال ” إن السياب اكل نفسه وأكلته عبقريته ” ماتفسيرك لهذا الكلام؟

هذا وصف جميل ودقيق كما أرى وحسب فهمي أنا له. نعم والدي يرحمه الله أكل نفسه حين دخل المعترك السياسي في العراق وأكلته موهبته التي أحرقت عمره كشمعة أوقدت من طرفيها.

-يحكى أن السياب كان عاشقا كبيرا حتى لنجد في قصائده أسماء لكثيرات.. ويرى بعض من زملاء السياب أنه لم يكن يملك علاقات عاطفية وأن كل ذاك الغزل ما كانا إلا افتراضا من خياله وحسب .. ماقولكم؟

ما أعلمه أن الأسماء التي وردت في القصائد كانت لأربع وليست لكثيرات كما ذكرت رغم أني أعتقد بأن كل شاعر لابد أن يكون عاشقا كبيرا بغض النظر عن كون تلك العواطف قد أثمرت علاقات عاطفية أم لم تثمر. حسب الشاعر أن يورق في صدره برعم حب ولا يهم برأيي أن يكون لهذا البرعم ما يماثله لدى المحبوب’. براعم الحب التي تفتحت في صدر السياب هي التي منحتنا رحل النهار وليلة في باريس وسواهما من قصائد حب غاية في العذوبة. أما كون كل ذلك الغزل افتراضا فهذا رأي لا أتفق معه لأن الشعرالعذب الذي أثمرته تلك العواطف لا يعقل أن يكون نتاج خيالات وتهويمات لأن العواطف غير الحقيقية تفضح نفسها بنفسها في الشعر كما هي في الحياة. وأخيرا أعذب الشعر أصدقه لا أكذبه كما أرى أنا.

-عاصر السياب الكثير من التيارات الفكرية والحزبية التي عشاها العراق .. لأي حزب أو تيار كان ينتمي حسبما تعلمون؟

أبي انضم للحزب الشيوعي في العراق خلال دراسته الجامعية كما هو معلوم ثم انقلب عليه وعاداه وتحول عاطفيا وفكريا للتيار القومي العربي لكنه لم ينضو لأي تنظيم حزبي والحقيقة أن تجربته السيئة مع الحزب الشيوعي أدت به لتجنب الدخول في أية تنظيمات سياسية أخرى.

-السياب كان شخصية انفعالية متوترا إلى حد بعيد كما يروي أصدقاؤه .. إلى أي مدى انعكس ذلك على علاقته بزوجته وأبنائه حسبما عرفتم؟

كون شخصية السياب انفعالية حقيقة لا يجادل فيها من عرفه عن قرب وللتوضيح وحسب ما أذكره أنا وما روي لي ممن عايشوا والدي عن قرب فقد كان شديد التأثر والحساسية وهذا هو المعنى الأقرب لتوصيف شخصيته. كان إذا أحب لا يحب بنصف قلب وإذا استاء لم يستأ بنصف قلب كذلك. أما تأثير ذلك على علاقته بأسرته فلا أذكر أو أعلم أنه كان لهذه الطبيعة تأثير سلبي على علاقته معنا بل كان محبا جدا وعطوفا جدا وصبورا جدا ولكن كانت هناك أمور وحدود لا يتسامح مع من يتجاوزها معه وأذكر أني في طفولتي ذات مرة كنت أعبث بكتبه وأوراقه ولم أستجب لتحذيراته بالتوقف عن ذلك فكان غضبه عارما إلا أنه لم يلمسني بسوء ولم يلبث أن صالحني وأرضاني بعد دقائق من ثورة غضبه تلك.

غيلان رفقة السياب الكبير

– أنت الشقيق لأختين هما غيداء وآلاء .. وكما أعتقد أن تسلسلك الثاني بينهما… هل كان السياب أقرب .. لابنتيه أم وحيده غيلان ؟

ظني الشخصي بأني كنت الأقرب إليه من أختي غيداء أما بالنسبة لشقيقتنا الأصغر آلاء فهي لم تنعم بصحبة الوالد طويلا لأنها ولدت في مرحلة مرضه وأسفاره العديدة للعلاج وكان عمرها بحدود الثلاث سنين حين توفي يرحمه الله.

-ما أخبار غيداء وآلاء وأين هما الآن ؟

هما في العراق مع أسرتيهما. أختي غيداء تعمل مهندسة في شركة النفط العراقية والصغرى آلاء كانت تعمل محاسبة مالية لكنها تركت العمل لتتفرغ لأبنائها.

-وماذا نسمع منك عن ” إقبال ” السياب ،، كيف كانت علاقتها بوالدكم وما الذي كانت تشجعه عليه أو تلومه ربما؟

والدتي , هذه المرأة العظيمة وذات الفضل الكبير بعد الله علي وعلى أختي تقيم في العراق كذلك. وبالنسبة لعلاقتها بالوالد يرحمه الله فقد كانت طيبة كما أذكر فلا تحمل ذاكرتي أي كدر شاب تلك العلاقة ولعلك تذكر وصف الوالد لها في شعره بالزوجة الغالية والصابرة. أما من ناحية التشجيع أو اللوم فلا علم لي بشيء من ذلك.

-ما مدى اهتمام غيلان السياب بالأدب والشعر .. وما أقرب قصائد والدكم إليكم ؟

أنا محب للشعر عامة وبالتأكيد لشعر والدي خاصة ويأتي أمل دنقل يرحمه الله على رأس الشعراء الذين أهوى شعرهم. من أقرب قصائد والدي إلي “الوصية” , ” أنشودة المطر” بالطبع, و “رحل النهار” و ربما معظم قصائد مرحلة مرضه خصوصا “سفر أيوب” و “من ليالي السهاد”.

-ألم تظهر الجينات الوراثية- الشعرية – للسياب في أحد أحفاده أو حفيداته ؟

للأسف لم تظهر “الجينات الشعرية” – رغم أني لا أعتقد بأن الموهبة تورث- لدى أحد لكن إبنتي الصغرى “لينة” ذات التسع سنوات لديها ميول موسيقية وإبنة أختي آلاء, “ديمة” لديها موهبة في الرسم.

– وماذا عرفت من أقارب السياب وأصدقائه عنه .. كيف كان حضوره وتفاعله معهم؟

بالنسبة للأقارب كان أبي محباً و وصولاً وباراً بكبار السن منهم وأخص بالذكر عماته يرحمهم الله جميعاً بل إن إحدى عمات أبي كانت جزءاً من أسرة الوالد مقيمة معنا أماً ثانية لي ولأختي. ولعل من الظريف أن أذكر لك بأن أبي كان يروي لي ولأختي غيداء قصصاً خيالية أبطالها هم بعض أولئك الأقارب. وربما كانت بساطته مع أقاربه هي ما يميز تلك العلاقة. من ناحية الأصدقاء, فأنا لم ألتق مباشرة بغالبيتهم بعد وفاة الوالد عدا الشاعرالكويتي الأستاذ علي السبتي والسيدة الشاعرة لميعة عباس عمارة وأستطيع أن أقول بأنه كان من الناس الذين لا تملك حين تعرفهم إلا أن تهواهم وتقدرهم.

-بعد أن لون ضفتيه بقصائد خالدة.. هل مازال بويب يتذكر ملامح السياب؟

لا أدري إن بقي من بويب شيء بعد أن شاب بويب وشابت جيكور وشاب العراق كله ولكني أظن بأنه إن كان بويب قد بقي وكانت لبويب ذاكرة فإنه بالتأكيد سيذكر شاعراً جعل من نهر صغير معلماً أدبياً خالداً في الشعر وإن لم يكتب له الخلود في الطبيعة.

-للسياب تمثال خالد في البصرة .. ماذا يعني لك أن يكون لأبيك تمثال في مدينة عريقة هي البصرة؟

مهما كانت ماهية المعلَم الذي يقام لتكريم أديب أو عالم في بلده أو مدينته فهو أمر جميل وضروري لتعريف من لا يعرف وتذكير من قد ينسى بأن مدينة ما قد أنجبت فلاناً وفلاناً وقدمت هذا الإسهام أو ذاك في تاريخها. والبصرة “ولود” على طول تاريخها في الدين واللغة والأدب ومن الطبيعي أن يسعدني بأن هذه المدينة تفخر بأبي وتتذكره.

-كان لوكالتنا زيارة إلى بيتكم القديم في البصرة .. وقد رأينا -والصور منشورة على وكالتنا – إهمالا كبيرا لهذا البيت التاريخي الذي ترعرع فيه الشاعر الكبير السياب .. ألم تسع أنت أو أحد أفراد عائلتكم إلى إعادة إعمار هذا البيت .. ألم تفاتحوا الجهات المعنية بحفظ التراث في العراق للعناية بهذا المعلم؟

البيت القديم الذي ذكرته هو دار جد والدي “مرزوق السياب” ولعلك تذكر قصيدة “دار جدي” التي ذكرت هذا المنزل وهو مكان ولادة الوالد وسكنه مطلع حياته حتى مرحلة دراسته الجامعية التي كانت في بغداد. والدار لم يعد ملكاً لنا منذ مطلع السبعينات إذ ابتاعته وزارة الإعلام حينذاك لترميمه وإقامة متحف للوالد فيه إلا أن هذا المشروع لم ير النور لسبب أو آخر وبقي المنزل طللاً مهجوراً كما هو حتى مطلع الحرب مع إيران حين أصبح مأوى للعائلات التي هجرتها الحرب من أماكنها الأقرب للحدود مع إيران ومنذ ذلك الحين أصبح مشاعاً لكل من شاء مع الأسف حتى أني وجدت في زيارة لي لجيكور عام 2001 بأن البوابة الخشبية الضخمة للباب قد إقتلعت من مكانها واختفت.

وبالتأكيد ليس هناك الآن من يهتم بإعادة إعمار هذا الطلل بعد أن أصبح كل الوطن طللاً لا يهتم بعمارته أحد.

-ما السؤال أو الموضوع الذي عاش معك طويلا وودت لو أنك تقوله أو تفهمه من السياب ؟

هذا سؤال صعب! لا أظن حقيقة إن هناك موضوع واحد ينطبق عليه سؤالك.

-ألم ينل احد أبنائكم او أختيكم أو عائلتكم شرف حمل اسم ” بدر ” تخليدا لذكراه الاجتماعية بين أسرته الكبيرة؟

ابني الكبير أسميته “بدر” وهو الآن في السابعة عشر.

– ليتك تذكر لنا ثمة مواقف نادرة عشتها أو سمعتها عن أبيك ؟

ذاكرتي تحمل العديد من الأحداث المتعلقة بحياة أبي الأسرية وعلاقته معنا لكني لا أراها “نادرة” بل هي أحداث حياتية طبيعية. ورغم أني أسأل دوماً عن ذكرياتي عن الوالد إلا أني أفضل الاحتفاظ بهذه الذكريات لنفسي ولأسرتي ولعلها الشيء الوحيد المتبقي من حياة أبي الذي لم يصبح مشاعأ وأحب أن أبقيه كذلك. لا أدري, ربما تتغير هذه القناعة لدي في يوم ما أو ربما ترسخ أكثر.

-شقيقا السياب عبد الله ومصطفى .. أيهما كان أقرب لوالدك وماذا أخبراك عنه بعد أن كبرت وكيف قرأت العلاقة بينهم وبين شاعر شاب متمرد كان أوسع من أن يحتويه ريف بسيط؟

أنا أظن بأن علاقة أبي بأخيه الأصغر عبد الله كانت أقرب من علاقته بأخيه الأصغر مصطفى. وبالتأكيد كانت طبيعة والدي الأدبية مختلفة عن طبيعة أخويه العلمية ولعل ذلك انعكس أيضاً على علاقتهم . والحقيقة لا أملك الكثير مما أستطيع أن أفيدك به بهذا الشأن.

-كان للسياب صداقات أدبية عديدة مع شخصيات لها الآن حضورها على الساحة الثقافية، هل التقيت بأحد هذه الأسماء .. وكيف كان استقبالهم لك؟

كما ذكرت في إجابتي على سؤال سابق, أنا لم ألتق بغالبية أصدقاء أبي بعد وفاته ولا تنسى بأن أغلب أصدقائه كانوا من بلدان عربية أخرى غير العراق لذا لم يكن اللقاء بهم ميسراً وأيضاً لأني شخصياً أقمت أكثر من خمسة وعشرين عاماً في قارة أخرى تبعد آلاف الأميال عن العالم العربي وكنت معزولاً عنه بدرجة أو بأخرى فلم تتح لي فرصة اللقاء بأولئك الأصدقاء ولكني سعدت بتواصل هاتفي وبريدي مع الراحل الشاعر بلند الحيدري وسعدت بلقاء السيدة الشاعرة لميعة عباس عمارة في الولايات المتحدة وكان لقائي أو تواصلي بكليهما رائعاً وجميلاً.

الفنانة العراقية هند كامل

بعد مشاركتها في اقتفاء أثر المتنبي
الفنانة العراقية القديرة هند كامل للوكالة: تربيت على حب الشعر ..و أنا محظوظة لأني عشت في عصر المواهب الحقيقية
الجمعة, 2011.01.14 (GMT+3)

وكالة أنباء الشعر/ حاورها: عمر عناز
من سحر الجنائن المعلقة في بابل ودهشة زقورات أكد وشموخ قصور آشور بانيبال، انبثقت أميرة سومرية مكتنزة بكل تجليات الإبداع وصوره المشرقة، إنها الفنانة العراقية القديرة هند كامل، سليلة عائلة النجوم المتلالئة في سماء الثقافة والفن، ارتسمت مسارها الإبداعي بخطى واثقة متطلعة لآفاق تتسع لقدراتها بما تحمل من ثقافة نهلتها من ينابيع أثثت روحها بكل معاني وقيم الكلمة المشرقة، ولاغرو فهي ابنة الفنانة القديرة فوزية الشندي وابنة الأستاذ المهندس المثقف كامل الشندي، وشقيقة الفنانة المبدعة هديل كامل، وبعد فهي غرسة الأكاديمية الفنية العراقية التي ينعت ولامست غصون ضوئها الفني سماء التميز، تفردت إبداعا بما أثثت به مساحات الفن أيام كانت تزدحم بعمالقة الشاشة العربية ومازالت زاخرة العطاء ، ولأنها تشربت ماء الكلمة الأصيلة فقد كان للشعر مسافة واسعة من اهتمامها جعلها تقتفي أثر المتنبي في عمل مبدع، وكالة أنباء الشعر التقتها وكان هذا الحوار..

– هل أنت امتداد لوالدتك الفنانة القديرة فوزية الشندي، أم أن لك خصوصية خارج حدود التقليد أو التبعية ؟
بالتأكيد يجب ان أكون إمتدادا ليس فقط لوالدتي السيدة فوزية الشّندي بل امتداد لعائلتي بأكملها وعياً وفكراً وثقافةً وفهماً للعمل الفني ومدى أهميته في تغيير المجتمع،
وفي الواقع إن السبب في تواجد والدتي ونهجها المنظم سلوكا وثقافة ودراسة أكاديمية تمثل في الوعي والتحضر الذي كان يتملك والدي السيد كامل شندي المهندس القادم أواخر الخمسينات متخرجا من جامعة يوتا الأميركية آنذاك، متسلحا بثقافة عائلية أساسا، ولحقتها فرصة للعيش المتحضر سلوكا وفهما وإيمانا، كيف بالإمكان ان تسير الحياة وفق قنوات الواقع الثقافي الذي يجب على المجتمع العربي ان يعيشه …حيث اني أعتبر ان والدي رحمه الله هو الحامي والأرض الصلبة التي كنّا نقف عليها نحن العنصر النسائي في العائلة في المجتمع العراقي الصعب آنذاك، لكن بكل صعوباته لا يمكن أن يصل اليه حاليا المجتمع العراقي بكل مستوياته.
نعم كان تأثير والدتي واضحا جدا علي حيث أني أشبهها كثيرا شكلا ولربما في بعض التفاصيل التي تخص الشكل وخصوصا الصوت وطريقة الأداء، وكانت مثلي الأعلى من الناحية الفنية فهي منهلي الحقيقي لتشرب الكثير من التفاصيل الفنية، لكن بعد تقدم الخبرة الفنية ابتدأت بالإستقلال* عنها لا شعوريا وإظهار هند الحقيقية وإعطائها فرصة واضحة في التأثير على الآخر والتمتع بما تمتلك من موهبة وتأطيرها بدراسة أكاديمية والخروج من عباءة ماما فوزية الشندي وخروج الفراشه من الشرنقة.

-في أي عمل شعرت هند كامل أن النص متفوق على أمكانتها الفنية، ولماذا
سؤال ذكي أعجبني، الأعمال التي ابتدأت فيها مع المخرج العراقي فيصل الياسري قبل ان يكون زوجي وكان ذلك في أول عمل جمعنا (المرايا)الذي أنتجته مؤسسة الإنتاج المشترك لدول الخليج العربي عام 1984، حيث انه كان ولا يزال من اهم الأعمال العربية التلفزيونية التي قُدمت برؤية فنية عالية مهنيا وعلى مستوى المشاركة حيث كان عليّ ان أقف جنبا الى جنب مع كبرى الأسماء الفنية العراقية والعربية وان أكون بمستوى فهم اللعبة التلفزيونية العالية المهنية وان ألعبها بمستوى اقتدار شخصياتها التاريخية والمعاصرة، حيث أن التحدي الحقيقي كان في الرؤية الفلسفية لكاتبي السيناريو فيصل الياسري والدكتور السيناريست السوري الشهير رفيق الصبان، ولحقته بعد ذلك ( نساء في الذاكرة) (لقاء في الذاكرة) و( إقتفاء أثر )..لنفس الكاتب والمخرج الأستاذ فيصل الياسري
حيث هناك لعبة الإنتقال من شخصية الى أخرى دون الوقوع في مطب إختلاط الشخصية المعاصرة والتي تتمثل بشخصية هند كامل والشخصيات التاريخية التي انتقل منها واليها حيث ان الموضوع يعتمد على حد تعبير مبتكر الفكرة فيصل الياسري رؤية الماضي بعين الحاضر
لكني لاأخفيك سرا حيث أنني نجحت وبتفوق في أداء ما كان مطلوبا مني ومع شارة الشرف من أساتذتي وزملائي والمسؤول الأكبر عن العمل فيصل الياسري.. وتعلمت منهم الكثير الكثير على كل الأصعدة واعتبر نفسي محظوظة اني عشت في عصر كانت فيه الكثير من المواهب الحقيقية .

-قلما يقترب فنانو اليوم من الاشتغال في أعمال تعالج موضوعات ثقافية تاريخية أو تراثية جادة ، ماالسبب الذي يقف وراء ذلك برأيك؟
صعوبة الكتابة للعمل التاريخي وكلفته الإنتاجية العالية على كل المستويات حيث ان المنافسات العربية التي تدعمها مؤسسات إنتاجية تلفزيونية* قوية حاليا تتطلب منك كمحترف ان تكون على قدم المساواة مع ما يُنتج وكمّ الإبهار الذي يتطلبه انتاج هكذا نوعية من الأعمال مقارنة بما هو موجود من تنوع الفضائيات وإختلاف نوع الجمهور الحالي الذي اصبح يمتلك الكثير من الخيارات التي لا تُجبره على رؤية ما لا يريد، لذا يجب أن تقدم له وجبة دسمة صورياً وهذا الأهم، حيث عموم الجمهور( وليس الفئة التي يسعى اليها المبدع الذي يحس بمسؤولية ما يقدم لمجتمعه واهمية التغيير الذي يمكن ان يُحدثه فيه) أعود للجمهور فأقول إنه لا يعنيه الكثير من القيمة الفكرية او التوثيقية غالبا بقدر ما تُهمه الفانتازيا التي تُقدم له .

-هند كامل ابنة الأكاديمية الفنية العراقية، الى أي مدى أسهم التعليم الممنهج في تشكيل الشخصية الثقافية لك؟
كان لدينا استاذ هنغاري إستقدمته الأكاديمية لتدريس فرع الفنون السمعية والمرئية والذي كنت إحدى طالباته (وكان قد حصل على جائزة الأوسكار في فن الإضاءة) يقول لنا إن الدراسة المنهجية كما وصفتها ممكن ان تعلمك اصول وكيفية عمل ما تريد الوصول اليه، لكنها لن تعلمك كيف تكون موهوبا، وهذا يذكرني بقول مأثور مفاده ان الدراسة تُعلمك كيف تستخدم السلاح لكنها لن تُعلمك النجاح في إصابة الهدف، الموهبة مع الوعي والإدراك مع الدراسة وتوظيفها في خدمة الموهبة فضلا عن الخبرة مجتمعة هي التي ممكن ان تخلق مبدعا مؤثرا شريطة ان يكون مؤمناً بذلك.

– هل توافقين من يرى أن الثقافة مخزون تراكمي ليس بالضرورة أن يستقى من مؤسسات تعليمية؟
بالتأكيد فالثقافة غير التعليم، هناك ثقافة إجتماعية وثقافة سلوكية وثقافة معلوماتية التي تتأتى من الدراسة.فليس كل حاملي الشهادات يتمتعون بكل انواع الثقافات وليس كل من يتمتع بثقافة احتماعية سلوكية يملك الثقافة المعلوماتية لكن ان توافر الكل حصلنا على الحلم وهو موجود لدى كثير من المبدعين لكنه نادر؟؟

-المتابع لهند كامل يلحظ جليا حبها للشعر العربي، واحتفائها به، بم تفسرين لنا هذه العلاقة مع ديوان العرب، وهل لديك محاولات في كتابة الشعر؟
تربيت على حب الشعر منذ ابتدات العمل كممثلة إذاعية وعمري لا يتجاوز16 عاما، ونشأت في بيئة مثقفة وكانت تتمثل في شخصية جدي لوالدي عبد الكريم شندي فقد كان من مُثقفي الكاظمية والعلامة الكبير المرحوم حسين محفوظ كان من الطلبة الذين تربى جزئيا في بيت جدي التاجر الذي خسر تجاراته لكنه لم يخسر علمه، فمكتبة جدي التراثية ومكتبة والدي العلمية والحديثة المعاصرة ومكتبة والدتي الأدبية والمسرحية كانت تحيطني من كل مكان فأين المهرب، حبي لها كبير ، ووالدتي تكتب شعرا مُقفى وكذلك أختي هديل كامل كانت تكتب شعرا مُقفى أيضا.

-تعرفتِ بشعراء عراقيين من أجيال مختلفة، كيف تقرئين المشهد الشعري في العراق، وما الأسماء التي تلتمع قصائدها في ذهنك غالبا؟
المشهد العراقي ليس بحاجة الى قراءةٍ خاصة مني، ولا مجال لان تتقفى أثر لمعان مُعين فبالكاد ترى لمعاناً حتى يجرك آخر، لا يسعني ان أحدد فلربما أبخس حقوق الآخرين.

– ( اقتفاء أثر المتنبي ) عمل فني اشتركت وزوجك الياسري في انتاجه، هل تحدثينا عن قراءتك لهذه الشخصية الخالدة في تاريخنا العربي، خصوصا أنك ممن يحتفي ويردد أبيات هذا الشاعر الكبير؟
تحدثت عن نوعية الأعمال هذه *أعلاه لكن ما يسعني القول عن المتنبي كشخصية تاريخية وأدبية لا يمكنك ان تتجاوزها كانت تحمل الكثير من الغموض في بعض جوانب حياتها وهو الهدف الدرامي والبحثي الذي كنا نسعى إليه.. حيث اننا في البرنامج حاولنا ان نطرح تساؤلا بُنيت عليه نظريات من باحثين ودارسين لحياة وشخصية المتنبي (تقول ان نسبه يعود الى الإمام المهدي عليه السلام) والذي قدم هذه النظرية المرحوم المؤرخ والمفكر عبد الغني الملاّح الذي كان حياً عندما قمنا بتصوير هذا العمل.أما عن إعجابي الشخصي بالمتنبي ..فكيف لإمرأة من نوعي ألا* تقف ذاهلة أمام عظمته البلاغية مفردة وصورة وتأثيرا حتى هذه اللحظة، ياليتني كنتُ شاعرة لكنت ملأتُ الجو صخبا صورياً…لكني مع الأسف لاأملك هذه الموهبة.

-الكثير من الأعمال الفنية المتميزة التي اشتركت فيها في ثمانينات القرن السابق، منع إعادة عرضها بوصفها تحمل توجها لاتنسجم مع مسارات المؤسسة الثقافية القائمة الآن في العراق، ماتعليقك؟
لا ..لا أعتقد ذلك فكل أعمالي التي سلِم منها لايزال يُعرض حتى هذه اللحظة في الفضائيات العراقية.اللهمّ الاّ فلم (الحدود الملتهبة) الذي تحدث عن حربنا مع إيران.أما فلم (بابل حبيبتي) والذي يتناول مهرجان بابل فلا زال يُعرض على روتانا سينما \ومحطة المستقبل اللبنانية\ ول بي سي اللبنانية .

-فيما كانت الدراما المصرية متصدرة، تقدمت الدراما السورية واثقة الخطى، برأيك أين تقف الدراما العراقية من هذا التسابق الفني؟
في اللامكان .

-هل الفن ذاكرة تعيد إنتاج نفسها بشكل مختلف، أم حاضر يتجلى متصالحا مع الحداثة متقاطعا مع الذاكرة؟
الفن صياغة مرتبطة بالواقع والعصر الذي ينتمي اليه والفن الذي لايحمل هذه الصفه فهو قراءة مُتخلفة إبداعياً.

-رفضت المشاركة في أعمال فنية عرضت عليك في القاهرة، معللة ذلك ( بأنها تلغي خصوصيتك كممثلة عراقية ) ألا ترين أنك تؤطرين إمكاناتك الإبداعية في حدود الهوية، خصوصا أننا* نعيش عصر الهوية العالمية؟
لا..انا لم أرفض العمل المصري لانه يٌخرجني من هويتي العراقية, بل طالبت بأن يكون لي موقعي المهني والفني الذي لايكون أقل من الذي حققته بجهد حقيقي ولم يخطر لي في بال ان يمرّ العراق بكل هذه الحروب التي دمرت كل ّشيء وكنت مؤمنة ان الخطوة قادمة، لكن القدر يسبقُ الإنسان دائما ويفاجئه..ويُلجمهُ

-( الفنان العراقي أصبح مذلولاً ومهانا في أعمالنا الفنية التي ينتجها القطاع الخاص قبل الحرب ) هكذا تقولين في حديث لك، هل هو انتصار ضمني منك للمؤسسة الحكومية، أم اتهام للقطاع الخاص ؟
لا هو ليس اتهاما للقطاع الخاص بل هو تشخيص حقيقي لواقع حال الفنان العراقي وتعامل القطاع الخاص معه بإذلال حقيقي.

-البعض يقول بخفوت نجومية جيلكم، ويعزو السبب لسرعة إيقاع العصر التي اضمحلت في ظلها المؤسسات الرسمية التي كانت تدعم أعمالكم فيما تسيدت قيم الاستثمار الثقافي والفني التي قد تعد الإثارة في مقدمة اهتماماتها؟ ماقولك في هذا؟
هذه هي الحياة، وكذلك هو الفن ..فالفن هو مرآة عاكسة للمجتمع والعلاقة بينهما طردية..والمعادلة الفنية في العراق لا يمكن ان نطبق عليها اي نظرية ثقافية او فنية لأن وضع العراق السياسي والإقتصادي خارج المنطق، لذا فكل العملية الإبداعية على إختلاف أصعدتها أيضا خارج المنطق وخارج كل ما يمُتُّ إليه بصلة.

-كانت لك تجربة عمل مميزة مع مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي، عملت فيها مع نجوم من مختلف الوطن العربي، ألا تلمسين حاجتنا لمثل هكذا مؤسسات في الوقت الراهن؟
جداااااا… لكن كيف وأين ؟ من الواقع السياسي المُضحك للعراق؟ (ول ديورانت) المفكر والمؤرخ الكبير يقول في مقولته الشهيره (اذا توفر الأمن كان هناك الإبداع)

-هادئة، بسيطة، مسالمة ،هكذا تبدو هند كامل الممثلة ، فهل تتطابق مع هند الزوجة والأم أم لكل حال تكييفه الخاص؟
بالتأكيد هناك الكثير من الشخصيات التي تختلف عني في كل شيء..ولكن بالرغم من هدوئي ومسالمتي في الفن والحياة أقسو على نفسي كثيرا في اغلب الأحيان وأنا شديدة الحزم ..والحسم قضية مهمة جدا على الصعيد الشخصي والمهني فيما لو أحسست ان هناك خطر بالإمكان أن يُهدم ما أومن به وأعمل لأجله.

-يقولون أن السفر يجدد الإنسان ويثري تجربته الثقافية ويمنحه أفقا لتصور مختلف، الى أي مدى أضافت لك الأسفار وقد جبت دولا عديدة؟
صحيح جدا…ويُدرك الإنسان كم هو جاهل ويحتاج دوما الى التعلم من ..وعن .

-تزوجت بالفنان والإعلامي القدير فيصل الياسري، أين تصالحت بينكم قيم الفن وأين تقاطعت؟
سؤال جميل…تعرف …المناطق بيننا متشابكة جداااا وعندما تتوقف لترانا تجدنا نختلف في أكثر الأشياء الظاهرة للعيان فنيا وانسانيا، لكننا في الواقع مُتشابهين جدا حدّ التنافر في بعض الأحيان..صحيح هو ينتمي الى جيل يفوقني خبرة وممارسة للعمل الفني…لكني انتمي الى جيله تربية ووعيا وإدراكاً وهذا ما جعلنا فنيا فريق عمل متناغم جدا بالرغم من قسوته الشديدة فنيا عليَّ كممثلة ودائما يضع لي قيما فنية عاالية أعلى مما هو معروف وسائد في منطقتنا العربية لكني دائما ما اقفز الى الأعلى وبالتالي يدفعه هذا لوضع تحديات فنية جديدة أعلى من التي سبقتها.

-نقرأ غالبا عن فشل زواج الفنانين، وتعدد التجربة لديهم والشواهد كثيرة، ماتعليلك لهذه الظاهرة؟
انا أعلل النجاح الى الفرد ومدى رغبته في الحفاظ على المعادلة الإجتماعية بالرغم من صعوبته…فليست العلة في المؤسسة الإجتماعية \الزواج \بل بالأفراد.

-حين تعودين الى بغداد، أي الأماكن تودين أن تزوريها أولا؟
الكاظمية والأعظمية..تحديدا الكورنيش

-وانت تعبرين الجسر بين الأعظمية والكاظمية .. ماذا ستقولين لدجلة تلك اللحظة ؟
ما هذااااا هل كنت تعرفُ إجابتي مُسبقا؟ أقول لها \يادجلة الخير يأمّ البساتين ..لشاعرنا الكبير الجواهري

-لو قررت يوما أن تنتجي مشوار هند كامل في الحياة مسلسلا.. ماذا سيكون عنوانه؟
يوماً كنا هناك ….اقصد ب(هناك) ..الحياة

-من هولاء في قاموسك الثقافي؟
يوسف الصائغ:شاعر مهم فكرا وموقفا من الحياة ومسرحياً إحتلّ جزءا واضحاً من الذاكرة الإبداعية العراقية.

عبد الرزاق عبد الواحد:موهبة شعرية كبيرة …تُمثل العصر الذي ينتمي اليه ويوسَمُ العصر الذي عاش فيه …به .

سعدية الزيدي:ممثلة تمتلك من فطرة الموهبة الكثير ولون من الأداء لم يتكرر في الفن العراقي وان حاولوا ذلك .

جعفر السعدي:قامة فنية كبيرة ..أجيال تربت على يديه ونجح في ذلك لصدق مسعاه وإيمانه بما يقوم.

يوسف العاني:كبيرنااااا وانا شخصيا أعتبره نموذجاً متفردا في الحفاظ على الروحية الفنية والإنسانية ومهتمٌ بشكلٍ حقيقي بما يدور حوله ويهمه جدا تربية النشأ الجديد وما يُنجز.

شذى سالم:ممثلة مثابرة بالنشأة والإنتماء وتسعى دائما ان لا تبتعد عن ما تحب في مهنتها بالرغم من الخيبات التي أصابتنا جميعا..سبقتني في المهنة وموهبة انظر لها بإحترام صادق.

-بماذا توقّع هند كامل هذا الحوار؟
ممثلةُ عراقيةٌ تملؤها الطموحات العالية لكنها تحتفظ بها جميعا في حقيبة الزهد اذا لم تجد لطموحاتها وأحلامها التي تعنيها هي وهي فقط ..المكان اللائق .

القاص و الناقد و الروائي و العراقي زيد الشهيد

في حوار خاص مع الوكالة .. القاص والناقد والروائي العراقي زيد الشهيد : القلم والورقة سيكونان مواداً متحفية تعرض في متاحف الأجيال القريبة القادمة
الجمعة, 2009.02.13 (GMT+3)

القديمُ خزيننا الذي نعتمد عليه في تعاملنا اليومي مع الجديد
عندما اقرأ للآخرين وحتى الكبار لا أجد أنهم يفوقونني في الكتابة أسلوباً وتصويراً ولغةً
القلم والورقة سيكونان مواداً متحفية تعرض في متاحف الأجيال القريبة القادمة

وكالة أنباء الشعر/ أجرى الحوار : عمر عناز

قادم من عمق حضارة وادي الرافدين، من متون المسلات وذاكرة الاساطير ، مشبع بكل ماتوحي به هذه التفاصيل من أبعاد معرفية وثقافية، هادئ جدا.. يخفي خلف هدوئه فعلا ثقافيا كبيرا يستند على وعي عميق وادراك حي ضمن فلسفة تماه تسبر أغوار المعرفة لتتبدى عوالم من الفكر والثقافة متجسدة في اجتراحات مبدعة، وفي الوقت الذي يراهن فيه الكثيرون على وجوب الاستناد الى ثبوتية الموروث ينبثق هو عن تأملات وتصورات تؤسس للحديث بمعناه الحقيقي والجدي المرتهن الى عقلانية فذة، إنه القاص والروائي والناقد العراقي زيد الشهيد الذي التقته وكالتنا فكان هذا الحديث:

– هل استطاع القاص العراقي أن يستوعب يومه السريالي ليترجمه إلى موضوعات قصصية ترقى إلى مستوى إدهاش الواقع ؟
أنا لا أرى من رسالة يحققها الأدب إلا أن تكون راصدة للواقع ومؤرخة له . وليس من تاريخ للشعوب إن لم ترصده الثقافة ويحفر وجوده الأدب على صوان الزمن . لا اكتب سرداً هلامياً عائماً .. وأُدين مَن يهرب عن تأرخة المعاناة المتجسدة في الواقع فيذهب للكتابة عن تلٍّ تاريخي يثير اهتمامه أكثر من لوعة أم ثكلى ، أو يتعامل مع لقية تعود لعصرٍ ما ليجعل منها موضوعاً تاركاً التعامل مع همّ العراقي المأساوي الحافر في قلب الألم . طيلة سني الحصار والعراق كان مسحوقاً لم أر من كتب عنه وصور معاناة شعبه اليومية التفصيلية . لذلك عندما كنت اكتب عن تلك المعاناة بدوتُ كمن يحلَّق خارج السرب . وحتى الصحف العراقية نشرت لي عدد من القصص باستحياء وبحروف صغيرة كما أتذكر ذلك الوقت واستطعت في ما بعد نشرها في مجموعتي ( حكايات عن الغرف المعلقة ) ، كما أرخت لحرب تحرير الكويت وضرب جسر السماوة المكتظ بالعابرين ومعهم العائلات التي كانت تتخذ من ضفتي الفرات أماكن لغسل الأواني والصحون والملابس بعد أن حُطِّمت البنى التحتية للمدينة وقطعت عنها الكهرباء بالكامل في العام 1991 .
إن الواقع العراقي بطبيعته مأساوي يستحق الكتابة عنه بغزارة سواء عن زمن النظام السابق أو في ما بعد سقوطه عندما بدأت الهجمة الإرهابية المنظمة عبر الحدود دخولاً لغرض تدمير العراق وتحطيم تجربته الديمقراطية وتحويله شراذم جغرافيّة واجتماعية . الواقع العراقي بكل محمولاته الثقيلة من الألم والعذاب تشكّل مادة مهيأة للكتابة ستؤرخ لحياة أناس سيقول عنهم قراء ما بعد عشرات السنين كيف تحمَّل ذلك الشعب ثقلَ الهول من مرارة وعذاب ودماء ؟

– العلاقة بين القديم والجديد علاقة إشكالية .. الى أي مدى استطاع القاص العربي أن يؤثث لعلاقة تواصليه مع هذا الشأن ، أم القطيعة سمة النص الناجح بالضرورة ؟
القديمُ خزيننا الذي نعتمد عليه في تعاملنا اليومي مع الجديد . منه نستمد ثراءنا اللغوي وعليه نتعرف على طريقة تفكير من سبقونا في الكتابة ومواضيع كانت تثير ذائقتهم في أزمانهم فكتبوها وكتبوا عنها . وأنت تعرف انك إذا أردت أن تتعرف على طبيعة حياة أية امة اذهب الى تدويناتها المتبقية من أناس ماتوا فخلّفوا ، وليس من أناس ماتوا فتطايروا في هُباب العدم . لقد غار الشاعر ادونيس في بطون الثقافة القديمة واستطاع بنجاح إعادة كتابة من سبقونا من فلاسفة وأعلام أدب وخصوصاً ابن عربي الذي أعاد إحياء تدويناته المهمة في الفلسفة والشعر . لكن لا يجب النظر إلى القديم على انه مقدس . بل محصلة الحياة الموضوعية تقر أن العقل البشري في تغير نحو إطلاع أوسع وإدراك اكبر . ومن هنا أقول بديهياً أن صاحب المعرفة الآن هو أكثر فهما وإدراكاً ومعرفةً من السابق القديم مهما حسبنا ذلك السابق عبقرياً وثاقباً ، بحكم أحوال متعددة لعل منها أن مفكر الزمن القديم يمثل زمنه ويعبر عن محيطات حيثيات يومه . وذلك اليوم بالتأكيد لا يشبه يومنا الحاضر . لذلك لا يجب أن نؤلّه القديم ونعتبره سنَّةً ليومنا الحالي . هذا تجاوز على الحقائق وإقرار باستاتيكية التفكير . وهذا هو الذي جعلنا كعرب ومسلمين نتخلَّف عن الأمم الأخرى حيث تعلِقُنا بالقديم يصل حدَّ التقديس ، وهي طامة كبرى أكلت على الأمة زمنها الذي يفترض أن تسير فيه مع ركب باقي الأمم حضارياً ومعرفياً .

– تكاد ثيمة الايروتيكا أن تكون ركيزة مهمة في الاشتغال الأدبي حالياً ( خارج إطار التابو ) ، برأيك ما سر هذا الحضور الفاعل الذي تسجله النصوص التي تشتغل على هذه الثيمة ؟
لا أجد ما يثير الانتباه في موضوعة استخدام ثيمة الايروتيكا في الاشتغال الأدبي فهي منحى من مناحي متعددة تدخل في الأدب كون الايروتيكا واحدة من سلوكيات إنسانية يعيشها ويمارسها في عصر يحقق تحولاً هائلاً في انتقالته العصرية واقصد به العصر الرقمي الذي تغدو الايروتيكا فيه ممارسة لا تشكل عبئاً على ذاكرة واهتمام وسلوك الإنسان المعاصر . المشكلة يا صديقي عندنا نحن المجتمع العربي والإسلامي هو الانشداد بعنف إلى الماضي وما التهيب من الايروتيكا إلا واحدة من التابوات الثلاثية التي شكلت من محرّمات المثقف الذي لا يجب الخوض فيها فهي ثلاثية تشكل خطاً احمر ، وهذه من معوقات تقدمنا ولحاقنا بركب الحضارة الإنسانية التي خلفتنا وراءها لأننا لم ندرك نتائج توسع الهوة مع الآخرين ولم نركب قطار الحضارة المنطلق بسرعة هائلة نحو اقيانوسات النور . لذا أرى استخدام الايروتيكا في الاشتغال الأدبي هو احد وسائل رفض الماثل واحتجاج مبطَّن ضد التابوات العديدة التي تنتصب للمثقف العربي من اجل إعاقته وجعله يساير الأنظمة التي تجاهد بكل امكانياتها المادية والإعلامية من اجل إبقائه والمواطن تحت ثقل كفها الجامحة .
– زيد الشهيد حظيت إصداراته بعناية خاصة من لدن النقاد والدارسين ، الى أي مدى استطاع النقد أن يواكب ما سعى الشهيد لقوله عبر قصصه واشتغالاته ؟
لا أخفيك أن أعمالي في مختلف الأجناس الأدبية سواء على مستوى الرواية أو القصة والقصة القصيرة جداُ والشعر أثارت اهتمام النقاد والقراء ، وكتب عنها الكثير وهي مسيرة أجدها صحية طالما هي تستفز ذائقة القارىء وتثير لديه الأسئلة . والنقد اليوم هو عملية إنتاج نص موازٍ للنص المقروء . وسعي الناقد الى تناول مادة قصيدة يجدها مهمة ومؤثرة يعني رغبته في إنتاج نص نقدي يوازي بقوته وتأثيره النص المقروء . ومن هنا أجد أن النقد مهمٌ جدا للكاتب ، ولا أُؤيّد مَن لا يحتفون بالقراءة النقدية من هذا الناقد أو ذاك حتى لو جاءت هذه القراءة لا تتوافق ورغبة منتج النص . لقد قرأ احد النقاد الشباب روايتي ( سبت يا ثلاثاء ) وعدَّها من مدمرات الأدب السردي وقال أن على زيد الشهيد أن يترك الكتابة الى الأبد في حين عدَّها ناقد أكاديمي من الخطابات الروائية المهمة التي ينبغي أن تُدرَّس لطلبة قسم اللغة العربية في الجامعات . وبمقدورك أن تلاحظ التفاوت الصارخ للرأيين النقديين . ومثل هكذا آراء تُطرح وبحالة تطرفية توحي لك أن العمل المنتج أثار الاهتمام ودخل حلبة التناول الجاد . ناهيك عن دراسات عديدة وقفت لصالح الرواية رغم صعوبة أسلوبها وطريقة طرح الأحداث حيث عملت فيها على تهشيم الهيكل التقليدي للرواية وفتَّت الزمن واشتغلت على استرجاعات وتداعيات واستخدامات كثيرة في الجناس والطباق والاستعارات وغيرها .

– رغم أنها ما تزال تسعى الى اكتساب هويتها ، عمد زيد الشهيد الى كتابة مجموعة من القصص القصيرة جداً وأصدرها في كتاب ، هل هي اجتراح باتجاه تعضيد هذا المشاكس ، أم هو حضور تفرضه راهنية التلقي ، أم ماذا ؟
لا شك أن القصة القصيرة جداً حققت حضوراً فاعلاً في الساحة السردية العراقية والعربية منذ تسعينات القرن الماضي وصارت تنافس القصة القصيرة التي ولدت من رحمها ، بل اجزم أنها شرعت تزيح القصة القصيرة لصالحها . تساعدها في ذلك المواقع الالكترونية التي باتت تتناسل فتتلقف القصة القصيرة جداً كونها المناسبة لسرعة الزمن الذي وجدنا أنفسنا نركب قطار انطلاقته . ولقد أشرت إلى هذا في دراستي عن القصة القصيرة جداً التي قدمتها في ملتقى السياب الخامس في البصرة الذي انعقد في 26/12 /2008 ، وقلت فيها أيضاً أنَّ ما ساعد على انتشار هذا النمط السردي هو إعطاء هامش التعليق الذي يُترك للمتلقي للتعبير حال الانتهاء من قراءة القصة القصيرة جداً ، فمثل هذا التعليق يشكل محفّز مؤثر في ذات منتج هذا النوع من السرد في حين تقل التعليقات في القصص القصيرة المنشورة في هذه المواقع وتكاد تنعدم حين ينشر فيها فصل من رواية .
لذا لم تعد القصة القصيرة جداً مشاكسة بقدر ما صار وجودُها والكتابة بها والتعامل معها أمراً واقعاً لا يمكن التجاوز عليه وتهميش تأثيرها ومفعولها .

– أنت غائب عن المسابقات والجوائز التي يتبارى الكتاب في الحصول عليها عبر مشاركاتهم ، ما سرّ ذلك ؟
في الواقع لست أنا الغائب لكن المسابقات والجوائز لا أسمع بها إلا بعد أن تُعلن . ولا أخفيك سرّاً أنني لا احتفظ بالنص الذي اكتبه من اجل أن انتهز مناسبة لإعلان مسابقة فأطلقه . أنا عندما انتهي من كتابته واعتبره جاهز للنشر ابعثه لكي ينشر لأني اشعر أن النص ينبغي أن يكون ملك القارىء وتسلط عليه القراءة من قبل المتلقي لا يجب أن يبقى حبيس أدراجي .. وشىء آخر هو أنَّ جوائز المسابقات تقتصر على المشاركين الذين يبعثون بنصوصهم ، ونيلهم الجوائز لا يعني أن غيرهم ممَّن لا يشارك لا يستحقها . الجائزة الكبرى أيها الشاعر المثابر هي تلك التي ينالها المبدع من مساحة اهتمام قرائه والمتتبعين لأعماله ونتاجاته .

– ما زالت طاحونة الحديث تدور حول ماهية الجديد الذي نحلم به في جديدنا الأدبي شعراً وقصةً ورواية ومسرح ، ترى كيف يقرأ زيد الشهيد هذا الاشتغال الذي يعده البعض إساءة مضمرة للموروث بينما يعتقد البعض بوجوبيته متهماً الرافضين بالثبوتية والجمود ؟
أنا مع كل حداثة تنقل الثقافة إلى أمام لاحتلال رقعة ثقافية تتوازى ومسار العصر . والذي توخى الحداثة ونقل خطوهُ لا بد أن ننظر إليه باهتمام وندرس تجربته لأن فعله هذا يدل على عدم استاتيكيته ويشير إلى أن فيه قوة متأججة وارهاص لا بد أن يتمخض عن جديد . لذلك أنا لست مع من يكبح كل جديد حتى لو كان الجديد هذا قادماً بانفعال وعلى أرضية مترجرجة ، فيكفيه أنه وضع القدم على مسار متقدِّم وما علينا إلا أن نتحاور ونتساجل من أجل التحرك إلى أمام . يكفيه أنّه أثار انتباه القارىء فهزَّ فيه الكثير بمحاولته التي اعتبرها خطوة إبداعية . والمبدع كما يرى رولان بارت هو ( الذي يهز الأسس التاريخية والثقافية والنفسية للقارىء . ) .

-خلال سنوات من الحفر القصصي والروائي ، ما آخر اكتشافات زيد الشهيد تقانةً وموضوعاً ؟
للحق أقول أننا ندخل العصر الرقمي ونحن نعيش ثورة معلوماتية هائلة ستطيح بكل تقانات الكتابة التي ندونها أو نقتفيها . فتعاملنا مع الشاشة الزرقاء ودخولنا إلى شبكة الانترنيت ولدت لدينا عالماً جديداً من الإطلاع على ممهدات العصر الرقمي وجعلت كأولى ممارسات التدوين هو التخلي عن القلم والورقة لصالح الضرب على أحرف الكيبورد . وظني أنَّ القلم والورقة سيكونان مواداً متحفية تعرض في متاحف الأجيال القريبة القادمة لتقول أنَّ إباءكم أو أجدادكم كانوا يستخدمون هذه الأدوات وسائل للتعبير والكتابة .
هذا على مستوى الرؤية العامة ؛ أما على مستوى الرؤية الخاصة فأني أرى بل أعددت ورقة أقدمها إلى ملتقى القصة في بغداد أعلن فيها موت القصة القصيرة لصالح القصة القصيرة جداً . ابني ذلك على معطيات تسارع العصر واستخدام الانترنيت وانتشار المواقع الأدبية بشكل يفوق التخيل . وفي هذه المواقع تدل المعطيات أن القراء يميلون لقراءة القصة القصيرة جداً في حين لا يقفون عند محطات القصة القصيرة . أما على مستوى النشر الورقي فمن يتابع القصص المنشورة ويجري إحصائية بسيطة سيكتشف انتعاش القصة القصيرة جداً وانحسار القصة القصيرة لانحسار كتابها أو انتقالهم إلى ساحة القصة القصيرة جداً .
من هذه الرؤية ، ومن كتابتي لأربع مجاميع من القصص القصيرة جداً نشرت منها واحدة وسأواصل النشر هذا العام أصدرت مجلة أسميتها ( تراسيم ) وتعنى بالقصة القصيرة جداً انطلاقاً من رؤيتي أن القصة القصيرة جداً هي مشروع كتاب السرد مستقبلاً . وهنا لا يمكن أن اغفل الرواية . فالرواية اليوم في عهد انتعاشها وتشكل المرجع الأساس للغة والأسلوب سيما وانَّ الحداثية منها صارت اليوم وعاءً يستوعب الأجناس الأدبية شعراً ومقالةً ولغة صحفية إضافة إلى لغتها السردية والوصفية .

س : تزدحم الساحة العربية والعراقية بأسماء الكثير من الروائيين والقصاصين ، هل ثمة اسم – اعني اشتغالاً منسوباً لأسم – يطمح زيد الشهيد الى تجاوزه ، ولماذا ؟
أظن أن لكل كاتب في ابتداءات انطلاقته كتّاب كبار يتأثر بهم متابعاً تحركاتهم وإبداعاتهم ، متقصياً دروب لغتهم ورياض أسلوبهم ، ينهل من هنا وهناك مما يتيحه له منهل المعرفة ؛ ثم بعد زمن يجد نفسه قد اختط له أسلوبه وصارت له هوية في الكتابة تمبّزه وتجعل منه كاتباً يقف في مصافي من سبقوه ، وقد يتجاوزهم . فقد قرأت لعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ومحمد خضير كقامات مهمة في السرد العراقي ، وقرأت لنجيب محفوظ ويوسف إدريس ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي وغيرهم عربياً مثلماً قرأت لجارلس دكينز وفيكتور هوجو ودستوفسكي وغوغول وشولوخوف وللكسنر دوماس وهمنغواي وشتاينبك وبيرل باك وآخرين عالمياً مع مدٍّ طويل من القراءات جمعت لي خزيناً ثرّاً صار ثروة لغوية وأسلوبية وصورية ، مضافاً لها أيضاً تحصيلي الثقافي من اللغة الإنكليزية حيث درست الأدب الإنكليزي طيلة أربعة أعوام دراستي في قسم اللغة الإنكليزية جامعة بغداد . كل هذا مهَّد لي أن اكتب برصانة وأحاسب نصّي بشدة قبل أن ادفع به إلى النور ليكون تحت أنظار المتلقي القارىء . لذلك ومن فوز لي في القصة القصيرة في المسابقة على مستوى القص في العراق التي أعلنتها صحيفة الجمهورية في العام 1993 وحتى اللحظة أتواصل في الكتابة واعتقد أنني انجح في ما اكتبه . أرى ذلك من احتفاء القراء الذين التقيهم في المحافل الأدبية أو من خلال الرسائل التي تردني مبدية الإعجاب أو مرسلة كتبها لإعطاء رأيي فيها أو تقديم قراءة عنها . ومن هنا اشعر أنني لا احتاج لأن أتجاوز أحد . ولأقولها صراحةً عندما اقرأ للآخرين وحتى الكبار لا أجد أنهم يفوقونني في الكتابة أسلوباً وتصويراً ولغةً إن لم أقل أنهم يتوازون معي أو أنا أتوازى معهم .

– في الختام ، ما الرسالة الذي يود زيد الشهيد إيصالها بسرعة الى جهة ما أو شخص ما ، أو نص ما ؟
أحب التوجه بالشكر إلى دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد التي أولت اهتماماً خاصاً للمبدعين المؤثرين في الساحة حيث كنت واحداً ممن نال هذا الاهتمام عندما أصدرت لي الدار كتابي ( من الأدب الروائي ) وهو كتاب احتوى دراسات في الرواية العالمية والعربية والعراقية وإتباعها تقليداً جديداً بتخصيصها يوماً احتفائياً بتوقيع عشرة كتب من إصداراتها – كان كتابي المذكور احدها – حضرها المؤلفون وحشدت لها وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة ، وهو تقليد جديد ومحفز للكاتب على الاستمرار في العطاء . وأود أن اشكر الشاعر نوفل أبو رغيف مدير دار الشؤون الثقافية العامة على هذه الالتفاتة داعياً إياه برجاء تجاوز قرار منع طبع كتاب آخر للكاتب إلا غب مرور عامين وإنما يؤخذ الطبع على أهمية المطبوع . كما أتوجه إلى وزارة الثقافة والفنون برجاء أن تضع مشروع طباعة للكتاب يستطيع من خلالها الكاتب نشر إبداعه وإيصاله إلى المتلقي المتطلع إلى الكتاب الجديد الذي يتعامل محتواه مع معطيات زمن القراءة .
كما أشكرك أخي الشاعر عمر عناز على إتاحة هذه الفرصة التي تحدثنا بها وجهاً لوجه في همومنا الأدبية اليومية .
وهكذا يظل الحديث الى زيد الشهيد ضربا من الترحال في متون سِفر ثقافي ومعرفي لمتصفحه نكهة البقاء على قيد الكلمة.

الشاعرة والمترجمة الإيرانية مريم حيدري

أعلنت عشقها للعربية..
الشاعرة والمترجمة الإيرانية مريم حيدري للوكالة: أمير الشعراء وشاعر المليون يحظيان بمتابعة وصيت كبير في الأهواز.. وأنا متمردة ومغرمة بالصوفية
الاثنين, 2011.05.30 (GMT+3)

وكالة أنباء الشعر/ حاورها: عمر عناز

فراشةٌ من ضوءٍ، حَمَلها نسيمُ الأدبِ على راحتيه في رحلةٍ مُكتَنِزةٍ بين ثقافتين فألقتْ كُحلَ جناحيها على زهر الكلام، لتعبقَ الأوراقُ شِعراً ونثراً وسحراً من بيانٍ، في ملامحها تقرأ عروبةً من قصيدٍ بعثرَته الشمسُ فتشكَّلَ ابتسامةً على مُحيَّاها، تحارُ حين تحدِّثُها من كتبَ الآخرَ هي أم النص فكلاهما يَشِفُّ عن خمرةٍ من معنى آسرٍ إنها ابنة الأهواز الشاعرة والمترجمة مريم حيدري التي التقتها الوكالة وكان هذا الحوار..

النص يقتل بالترجمة السيئة..

-يقال إن الترجمة خيانة للنص .. ماتعليقك على ذلك وأنت اشتغلت على ترجمة الكثير من النصوص الإبداعية؟

لا اعتقد أن الترجمة هي خيانة بالمعنى الحقيقي وإن تكن خیانة فلتكن. فماذا نفعل من أجل أن نقرأ الآخر ومن أجل أن نتعرف على الأدب العالمي وحتى على آداب جيراننا مثلاً.

في كثير من الأحيان عندما أترجم نصاً شعرياً أو غير ذلك، لكم أتمنى لو كان القارئ يستطيع أن يقرأ ذلك النص بلغته الأصلية ولكن ماذا نفعل؟ على المترجم فقط أن يبذل كل جهده ليصب روح النص الأصلي في ترجمته لتكون نسخة أخرى من النص الأصلي في اللغة المترجمة. أنا اشعر بحزن شديد عندما أرى ترجمة سيئة خصوصاً لنص جميل وذي قيمة.. النص يقتل بالترجمة السيئة فلنصنه.

مُغرَمة بالصوفية..

– بين العربية والفارسية تتوزع مريم حيدري شاعرةً .. أيُّ اللغتين تجدين أنها تتسع لما تودين قوله شعرا؟

تعرف أن لغتي الأم هي اللغة العربية لكن علاقتي مع الفارسية جيدة جدا. أنا أكتب بالعربية والفارسية.. في بعض الأحيان أشعر انه علي أن اكتب بالفارسية قصيدة ما مثلاً وأحيانا أجد أن العربية فتحت أحضانها لما أريد أن أكتبه. القصيدة تأتي اليَّ بلغتها.. هي تختار لغتها وتعرِّج نحوي.. بالفارسية أم العربية.. أنا كتبت أول ما كتبت بالفارسية.. ثم بدأت بالكتابة بالعربية.. الفارسية قريبة جدا الي.. أفكر في كثير من الأحيان و أحدِّثُ نفسي بالفارسية.. هي أعطتني تجارب لم يمكن من السهل أن أجدها في لغة أخرى.. أنا كنت منذ صباي مغرمة بالصوفية.. وقرأتها بالفارسية.. قرأت جلال الدين الرومي و حافظ و شمس التبريزي وسعدي والعطار كلهم بالفارسية وعشقتهم.. لا استطيع أن أتصور أن يكون جلال الدين الرومي ليكتب كل تلك القصائد الجنونية المذهلة في لغة أخرى.. ربما أقول هذا لأني اعتدت عليه بالفارسية.. لا اعرف.. لكني الآن اشعر أني لن استطيع يوما أن أتخلى عن الفارسية واتركها.

أعشقُ العربية..

أما العربية فهي عظيمة جدا.. لا اقترب اليها بتلك البساطة التي اقترب بها الى الفارسية.. الفارسية بسيطة ومتواضعة أما العربية فهي محتشمة وعليك ان تقترب اليها بشيء من الرهبة والخشوع.. العربية منحتني الاتزان والتأني.. كأن الفارسية تكاد تكون لغة مجنونة والعربية لغة متزنة ومحكمة. التفاصيل اللغوية الجميلة التي تنحصر العربية بامتلاكها، النغمات التي تتشكّل عفويا في العبارات البسيطة وكل الاتساع اللغوي والمفردات الهائلة التي يمكن أن يضيع الشخص بينها تجعلني أعشق العربية.. أحيانا أتمنى لو أني بدأت تعليمي وكتابتي بالعربية وأتمنى لو أنها كانت تسكنني أكثر مما هي عليه.. في العربية أجد نفسي فتاة عربية تريد أن تنطلق وتكتب وترى وتعشق ما هو غير ممكن ومحظور وفي الفارسية أنا فتاة فارسية لها هموم تختلف عن الأولى.. تكتب عن حب آخر وعن قيود أخرى وتنبهر بأشياء أخرى… وأحيانا يختلط كل شيء بكل شيء.. هناك ازدواجية ليست سيئة تأتي من وجود ثقافتين معا في داخلي.. وانا أحب هاتين الثقافتين كلتيهما.

أنا متمردة..

-صرّحت ذات مرة قائلة ” أحاول أن أعكس التمرد الذي في داخلي من خلال قصائدي” ماتبرير ذلك برأيك؟

أنا متمردة مع انه لا يكون ذلك واضحا في كثير من الأحيان في ملامحي. التمرد الذي تحدّثت عنه في ما أشرت أنت اليه يعني التمرّد على التقاليد.. كنت ولازلت اعتبر لاسيما في مجتمعنا الاهوازي فتاة متمردة.. في ما افعل وفي علاقاتي وربما حتى في مظهري.. اشعر أنني لا استطيع أن أتقبّل أيَّ قيدٍ مبني على الجهل وناتج من قصر النظر والتشدد بكل أنواعه دينيا كان أم قبليا أم ي شيء آخر..

الجمهور الشعري في الأهواز يريد شعرا موزونا..

– ما تقييمك للمشهد الشعري في الأهواز وكيف تنظرين لعلاقته مع القاريء في الدول العربية؟

تعرف ان هناك ضربين من الشعر يكتب في الأهواز الشعر الشعبي أو العامي والشعر الفصيح.. الشعر الشعبي الاهوازي يشبه الشعر الشعبي في العراق وأنا لا خبرة لي فيه.. فلا اسمح لنفسي بالتحدث عنه.. فقط اذكر انه شعر جميل وكنت فيما سبق أتمتع بقراءته غير اني ابتعدت عن قراءته لأسباب ما.. أما غالبية القصائد الفصحى التي تكتب في الأهواز فهي قصائد تفعيلة.. ما زال الجمهور الشعري في الأهواز قرّاء وكتّابا يريد من الشعر أن يكون موزونا.. أنا أيضا كنت أمارس شعر التفعيلة في البداية وحتى السنين الأخيرة.. هناك شعراء جيدون في هذا المجال وشباب يتطلع الى مستقبل شعري ناجح.. تكتب ايضا قصائد كلاسيكية بشكل جاد وهناك محاولات وتجارب جميلة من قبل شباب آخرين في كتابة قصيدة النثر.. عموما اعتقد أن المشهد الشعري الاهوازي يكاد يكون ذا صوت بين المشاهد الشعرية الأخرى في البلدان العربية.. فهو لا ينقصه شيء من مواهب ومتابعات وتطلعات جادة لا سيما بين الشباب.

اعرفُ متابعات الشعراء..

– في ظل تقنية الانترنيت والفضائيات ..هل استطاع الشاعر أو الأديب الأهوازي أن يكسر طوق المحلية ليوصل صوته؟

الانترنيت والتلفاز يؤثران على كل حياتنا وحتى على تفاصيلها.. عندما أتحدث عن نفسي أرى أن الانترنيت ساعدني في إيصال صوتي الشعري نوعا ما.. تعرف ذلك يعود الى جهدي او الى الكسل عندي.. لكنه وسيلة جيدة للتواصل وربما هو أفضل وأسرع وسيلة لتوصل شاعر شاب الى هدفه الشعري.. شاعر يقطن مثلا في بلدة بعيدة ويروم التعريف بنفسه وإيصال شعره الى شعراء آخرين يراهم إخوته في اللغة وفي الشعر والثقافة وكل شيء. اما الفضائيات والتلفاز فأنا بعيدة عنها تقريبا ولا أعيش الآن في الأهواز لكني اعرف متابعات الشعراء وهواة الشعر شبابا وشيوخا في الأهواز للبرامج الأدبية والثقافية والمسابقات الشعرية والأدبية التي تقام في البلدان العربية ويتم بثها عبر القنوات الفضائية…

دائما هناك من يوصيني بمتابعة هذه المسابقات.. لكني.. تعرف؟!… لا املك حتى جهاز تلفزيون في بيتي.. ليس اعتراضا على شيء بل بسبب قلة الوقت فقط أعدك أني سأتابعها ذات يوم.

لاحاجز أمام إصدار الكتب العربية..

-الكتاب الثقافي العربي في الأهواز … ما مدى انتشاره والاعتناء به وهل ثمة معارض تقام له .. وما قراءتكم للحاجة الى ذلك ؟

لا.. ليس هناك مجال كثير لإصدار الكتب في الأهواز.. صدرت كتب شعرية عربية لشعراء اهوازيين في إيران غالبا ما كانت من قبل دار نشر “شادكان”، لكنها قليلة.. لا اعتقد أن هناك حاجز أساسي أمام إصدار الكتب العربية ولكن اعتقد أن الأمر يعود الى اهتمام الشعراء الاهوازيين بشعرهم وبإصدارهم دواوين شعرية… غير ذلك ليست هناك دور نشر كثيرة في البلاد تقبل بإصدار كتب عربية فالناشر يحسب انه لا قارئ لمثل تلك الكتب.. تصدر سنويا كثيرا من الكتب الشعرية الدينية في الأهواز وفي مدن أخرى مثل قُم.. لكني أكاد لا احسبها ضمن الدواوين الشعرية والمشروع الشعري والأدبي البحت..

لهفة كبيرة لاستماع الشعر بين الاهوازيين..

-تضم الأهواز شعراء وأدباء لهم خصوصية إبداعية .. هل ثمة أمسيات أو مهرجانات شعرية توفر لهم المنبر الذي يليق بإبداعاتهم ويستوعب إمكاناتهم وطموحاتهم الثقافية؟

كان في ما مضى وفي فترة مرت عليها سنوات أمسيات شعرية تقام ومهرجانات تخص الشعر ونقده.. كانت هناك أمسيات شعرية ومهرجانات تقام بين مناسبة وأخرى تحتفي بالشعراء والشعر وكان يؤمها الكثير من الشعراء وعشاق الشعر العربي.. تعرف ان هناك لهفة كبيرة لاستماع الشعر بين الاهوازيين.. كانت هناك أمسيات شعرية جميلة تقام في الجامعات أيضا.. أما في الفترة الحالية فقلت تلك الأمسيات والمهرجانات الى درجة اللاشيء.. ربما تسمع كل سنة بأمسية تقام لمناسبة دينية في جامعة ما أو في قاعة عامة لكنها ليست بذلك الصخب والحفاوة والجدية التي كانت تعم على تلك الأمسيات السابقة.

متمردة!!

-الشاعرة الاهوازية .. كيف تمارس فاعلياتها الثقافية في إطار التابو الديني المحيط وما رؤيتك لهذا الأمر من حيث انعكاسه على الأدب ؟

طالما تمنيت أن يزداد عدد الشاعرات بين ذلك الجمع الغفير للشعراء في الأهواز.. لكنهن وللأسف قليلات جدا.. طبعا الشاعرة الاهوازية عليها ان تكافح في مجتمع قبلي وديني من اجل الحضور ومن اجل إيصال صوتها الشعري.. طبعا سيرحب بها كثيرا إن كتبت قصيدة عن المناسبات الدينية أو عن الحجاب مثلا.. لكنها ستعيش تجربة صعبة وتحديا إن كتبت مثلا غزلا.. اذكر أني منعت ذات يوم من قراءة قصيدة في مهرجان بمناسبة يوم المرأة قبل عدة سنوات. وهل تعرف ماذا كان السبب؟ قالوا إن هذه القصيدة إباحية.. وطلبوا مني أن استبدلها بقصيدة أخرى اقل تغزلا وتحديا.. ربما مثل هذه الأحداث أذكت نار التحدي فيَّ وجعل البعض يصفوني بمتمردة..

شاعر المليون حديث متابعي الشعر في الأهواز..

-شاعر المليون مسابقة سنوية تُعنى بالشعر الشعبي ( النبطي ) تقيمها هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث .. كيف يتابع الشعراء الشعبيون لديكم هذه المسابقة وما انطباعكم عنها ؟

هذه المسابقة يا صديقي لها صيت كبير ومتابعة واسعة من قبل الاهوازيين، شعراء كانوا أم هواة شعر.. عندما تبث يتحدث كل من يتابع الشعر الشعبي في الأهواز عنها.. ويبدو أنها نجحت في استقطاب المشاهدين العرب من جميع البلدان وهناك من يتمنى ويبرمج ليشارك ذات يوم فيها.

ترحيب أهوازي بأمير الشعراء..

– مسابقة أمير الشعراء من قناة ابو ظبي تقام سنويا برعاية هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث وهي مسابقة تعنى بالشعر الفصيح .. كيف تتابعون المسابقة وما تقييمكم لها .. وهل لمست رغبة لدى شعراء الأهواز للمشاركة بالمسابقة ؟

نعم.. هذه هي الأخرى التي رحب بها المشاهد الاهوازي كثيرا.. وسمعت في ما سبق أن شاعرا أو شعراء اهوازيين شاركوا فيها.. اذكر ان في تلك الفترة كان الكل يتحدث عن هذا الشاعر الاهوازي الذي شارك في المسابقة وبث صوته يقرا قصيدته.. وان تسعفني الذاكرة كان الشاعر من إحدى القرى الاهوازية.. ترى ان الفضائيات العربية تكاد تعيش في جميع البيوت هناك ومتابعة الشعر أمر يشترك فيه غالبية الاهوازيين.

أحاول نشر ديواني بالفارسية..

-اخبرينا عن مشاريعك الأدبية التي تبشرين بها؟

هناك ترجمات كثيرة من العربية للفارسية ومن الفارسية للعربية.. كما أحاول وآمل أن يتسنى لي الوقت لجمع قصائدي العربية لنشرها ضمن ديوان كما سيصدر لي ديواني بالفارسية أو الذي يضم قصائد بالفارسية كتبتها خلال الأعوام الأخيرة.

صدرت لي ترجمة ديوان “اثر الفراشة” لمحمود درويش قبل أشهر في إيران والذي كان كتابا ناجحا الحمد لله.. كما صدر لي في العام الماضي كتاب “الرحالة والعالم” يضم مقالات مترجمة عن الرحلات الشرقية والعالمية.. والذي صدر في أبو ظبي من قبل دار السويدي للنشر وضمن فعاليات مؤتمر أدب الرحلة حيث أقيم في الدوحة.. هناك ترجمة لمختارات للشاعر الإيراني الشهير “احمد رضا احمدي” ترجمتها الى العربية وستصدر قريبا في الجزائر وترجمة مختارات قصصية للكاتب الإيراني “مصطفى مستور” الى العربية.. ترجمة “ساتان ابيض” للشاعرة عناية جابر الى الفارسية، ستصدر قريبا في إيران.. ترجمة مختارات للشاعر “نوري الجراح” الى الفارسية أيضا ستصدر هذا العام.. ترجمة مختارات للشاعر “وليد علاء الدين” وترجمات أخرى لا أطيل عليك بذكرها.. كما ان هناك دراسة أو قراءة لكتاب “الكتاب” لأدونيس بالفارسية.. هي قيد الطبع أيضا.. ومشاريع أخرى اطمح الى إكمالها حتى نهاية هذا العام.. تعرف هناك مثل يقول “كثير النوايا بايت بلاش”!!.

كل شيء في مكانه..

-المرأة بوصفها دالة للإلهام الشعري.. برأيك هل استطاع الناّص أن يحاكي المرأة خارج فكرة الجسد أم مازالت هيمنة السطحي طاغية ؟

هناك من حاول ويحاول أن يخرج من هيمنة الجسد البحتة عندما يحاكي المرأة شعرا أو أدبا بشكل عام.. وهناك الكثيرون ممن ظلوا يمارسون محاكاتها داخل إطار الجسد فقط.. اعتقد أن المحاولات نجحت بعض الشيء.. قليلا.. من جهة أخرى اعتقد أن الإنسان رجلا أو امرأة.. يجب أن يخاطب بالعقل وبالجسد كليهما.. لا اعتقد انه هناك مشكلة كبيرة في مخاطبة المرأة أو الرجل جسدا في بعض الأحيان.. الإنسان يميل أحيانا الى شيء ما وفي حين آخر يميل الى ما لا علاقة به.. هذه طبيعة الإنسان.. يجب أن يكون كل شيء في مكانه.. ولا يطغى الانتباه الى الجسد على الروح والعقل بشكل مبالغ فيه.. أنا أيضا بدوري أحاول أن لا يطغى مثلا اهتمامي بمظهر الرجل وجسده على الانتباه الى روحه وفكره.. الأمر سواسية برأيي.. ولكن موضوع هيمنة الجسد في نظرة الرجل الى المرأة هو قائم ومطروح أكثر من مقابله بكثير.. لأن الرجل مازال مسيطرا حتى في طرح القضايا التي ترتبط بالمرأة.. وهو الذي مازال يمسك الأدب والسياسة والثقافة.

ليس ثمة مخطط..

-هل ثمة مخطط تعمدين اليه قبل الشروع بكتابة القصيدة ؟ أم انك تتركين لها ان تقرر شكلها ومداها؟

أنا لا اعتقد بالإيحاء البحت في كتابة القصيدة.. القصيدة تأتي ببدايتها أو بمقطع من نفسها.. لكني اعتقد بالوعي في كتابة الشعر الى جانب الإيحاء.. الوعي في كتابة النص لا يقل أهمية من الإيحاء ان لا يزداد أهمية بالنسبة له.. ليس ثمة مخطط بالمعنى الحقيقي… هناك ربما إيحاء في البداية لكن الشعر أيضا كأي مشروع أدبي آخر يحتاج الى صياغة وإعادة صياغة وتغيير وتبديل وتفكر الى جانب الخيال والصور التي لا يستغنى عنها الشعر.

لا يلعب الوزن دورا في تقييمي للنص..

-بعد مسيرة من كتابة ماتزال قصيدة النثر محور صراع أجناسي ؟ هل ترين انها أثبتت حضورها أم ماتزال تسعى لاكتساب هويتها؟

اعتقد ان قصيدة النثر توصلت الآن الى درجة من القبول بل الإيمان لا يمكن الشك فيه. أنا بنفسي أحبها جدا وأمارسها ولم يكن لي في يوم من الأيام عداء تجاهها.. هي فضاء واسع يمكن للشاعر أن يسير فيه بل يطير بطلاقة ويجلب الى فضاء شعره ما كان عاجزا عن جلبه في القصيدة العمودية أو التفعيلة حيث كان يقيده الوزن وتحصره القوافي.. ففي قصيدة النثر يمكن للشاعر أن يقترب الى الشعر الحقيقي أكثر من القصيدة الموزونة.. برأيي يجب أن تكون القصيدة شعرا حقيقيا ولا يهم كثيرا أن تكون موزونة أو منثورة.. أنا استمتع باستماع وقراءة شعر يكون اقرب الى مثل الشعر في ذهني ولا يلعب الوزن دورا في تقييمي لنص شعري ما..

أحب النصوص النسائية ..

– يتداول البعض مسمى – النص الأنثوي – دون إستناد على ملامح نصيّة بعينها ، برأيك هل هي محاول قصدية للتهميش أم واقع يفرض نفسه ؟

ليس هذا في محل اهتمامي.. فلم أكن من دعاة الفيمينية في حين كنت أحاول أن أتحدى أيَّ محاولة لتهميش المرأة في مجتمعي.. كان الأمر شخصيا أكثر مما يكون كفاحا عاما.. بالنسبة للنص الأنثوي… لا اعتقد انه في مجال تخصصي التحدثُ عنه.. هناك من حاولت أن تخرج من إطار النص المألوف واصفة إياه نصا فحوليا وكتبت ما سمته نصا أنثويا… أنا اقبل كثيرا ما يقال حول النص الذكوري المألوف والسائد.. ولكن شخصيا لم أمارس شيئا ضد ذلك ولم يكن محط اهتمامي كثيرا.. سوى قراءات ونصوص نقدية قرأتها هنا وهناك.. لا اعتقد أن كتابة نص أنثوي ستجدي كثيرا فقضية المرأة والرجل لاسيما في مجتمعاتنا مازالت قضية ابسط من ذلك.. ولقد ذكرت في ما سبق أن النص يجب أن ينتمي الى كاتبه كإنسان ولا يهم أن يكون الكاتب رجلا أم امرأة.. مع أني أحب النصوص النسائية الشعرية مثلا.. ولكن ذلك لا يعني انتماء أو اتجاها أساسيا.. هو ربما شعور بالقرب فقط الى الشاعرات والكاتبات.. لاغير.

تحب أن أوافقك!!

-منذ أعوام ينشغل الوسط الثقافي بدعوى – الحداثة – في مواجهة التقليد ( الكلاسيك ) وهنا أود أن أسأل عن ماهية هذا الحداثة برأيك ثم ألا توافقينني بأنها بررت لاختلاق ثقافات هشّة ونصوص مريضة دون تغاض عن وجود بعض الملامح الايجابية؟

يبدو انك تحب أن أوافقك!.. لكني أحب الحداثة المعقولة.. هناك ايجابيات في الكلاسيكية، طبعا.. ولكن كل شيء يجب أن يتغير ويتحول ويتطور.. أنا لا أحب التطرف لا في إطار الحداثة ولا في الكلاسيكية والتقليد.. أحبه في مجالات أخرى.. نعم هناك ثقافات واطر تأسست أو اختلقت باسم الحداثة، أنا أيضا لا أوافقها ولا أحبها.. لكن هذا لا يعني ولا يبرر تجنب قطار الحداثة والتجدد والتطور الذي يجري في العالم ويزداد يوما بعد يوم.. فنحن أيضا نعيش في هذا العالم.. أنا شخصيا أحب القديم وما يتعلق بالذكريات وجماليات الماضي ولكن أرى نفسي داخلة ضمن إطار الحداثة شئت أم أبيت.. كما هو الحال لدى كل فرد يعيش في هذا العالم..

الحداثة هي التطور والتحول.. وبالنسبة لي هي أن تأتي كل مرة بجديد.. تعرف انه حتى المتصوفة يبحثون عن الجديد.. دائما يتجلى الحبيب بشكل مختلف عن سابقه وجديد.. الحب لديهم دائما يتحول ويكون جديدا كل مرة.. هناك قصيدة جميلة جدا لجلال الدين الرومي بهذا المضمون وينتهي كل بيت منها بمفردة “الجديد”.. يا ليتك تعرف الفارسية لكنت ذكرتها هنا.. وحتى يقول الرومي إن هدية الشاعر للآخرين يجب أن تكون شعرا حديثا.. هذا جميل جدا.. اليس كذلك؟

قصيدة..

-نسعد ان تخصنا مريم حيدري بقصيدة جديدة نقدمها لجمهور الشعر فماذا تختارين ؟

يسعدني أنا.. هناك قصيدة ليست بطويلة أتمنى ان ترضي ذوقكم الرفيع:

تخرج لیلاً من مغارة کنت خبأتها في جوفي

تفزع القطط التي تموء في أذني لیل نهار

أغمض عینيّ في شهوة جاشت قبل وقتها

ویبتدأ یومٌ آخر

في الصبح

تخطر القصیدة التي أنتظر

تقول إنك تبقی تحدق بي حتی تمام الساعة الرابعة مساء

مساءً

تمرّ المواکب من شارعنا

أنظر نحو المعزّین

بینهم لا تلوّح لي بملابس سوداء

جالسٌ بین شقوق رأسي

ترمّم شیئاً من المخیلة.

-ما الرسالة التي تود مريم حيدري أن توصلها الى جمهور الشعر العربي عبر وكالة انباء الشعر؟

لا شيء الا أني أتمنى لهم جميعهم ولك أن تمتلئ أيامهم دائما بالجديد.. هذا بعد ما تحدثنا عنه في الحداثة! ولكن دون مزاح وبكل جدية أتمنى أن يأتي كل يوم لهم بجديد جميل.

هندسة القصيدة وتحليل البنية الإيقاعية في ديوان ( خجلا يتعرَّق البرتقال ) لـ عمر عنّاز

كتابات – كمال عبد الرحمن

يقع مصطلح ( هندسة القصيدة ) في المسافلة غير المنظورة بين ( مفهوم القصيدة ) و ( بنية القصيدة ) ، وبما أن البناء لايقوم أو يرتفع الا بعد هندسته، لذلك تقترب ( الهندسة ) الى ( البنية ) أكثر من اقترابها الى ( المفهوم ) ، وان كانت الهندسة نظريا تعني المفهوم، إلا أنها عمليا تعني البنية.
ويمكن أن تشتغل القصيدة على عدد من البنى، أهمها ثلاث:
بنية اللغة الشعرية
بنية الصورة الشعرية
بنية الايقاع الشعري
وتشتمل بنية الإيقاع الشعري على عدد من العناصر أهمها:
1. الوزن
2. القافية
3. التكرار
4. التدوير
5. الإيقاع الداخلي
أما ( الوزن ) فلاشك أنه علامة فارق للقول الشعري، فهو الذي يميزه عن سواه من فنون القول، اذ انه العنصر الذي يمنح الكلام موسيقا خارجية، ولعل ميزة الوزن هي أنه يجعل الشعر أكثر عاطفة وأقوى في إثارة الانفعال، بالرغم من أن هذا الإجماع لايعني عدم وجود إيقاع في قصيدة النثر.
ولاشك أيضا أن الوزن يعد لدى أكثر الدارسين والباحثين في هذا المجال هو تأريخيا أكثر من غيره التصاقا بالشعر وإن كان الوزن هو الذي يجعل ( القصيدة بنية ايقاعية خاصة ) في التشكيل الشعري الجديد، فانه عند أغلب الدارسين، انما هو (( وجه من أوجه التكرار )) ومهما يكن من أمر فأنه لابد أن يتخلص من حالة الجمود التي أصابته على مدى قرون، لأنه أحد مصادر الموسيقا في الشعر، وتؤدي هذه الموسيقا وظيفة جوهرية في نطاق فن القول الشعري
لقد اهتم الشاعر عمر عناز بموسيقا قصائده في هذه المجموعة الفذة اهتماما ملحوظا معبرا عن معرفة واسعة في البحور الشعرية وتألقا وإبداعا في هذا المضمار، وكان ( الوزن ) أحد العناصر البارزة في بنية قصائده وتفنن في هذا المجال، فاستخدم تفعيلات بحر ( الرمل ) بزحافاته المعروفة وموسيقاه الخلابة، وموسيقا اللغة التي هي أعلى من موسيقا الوزن والقافية وغيرها من عناصر الإيقاع الشعري في القصيدة:

ثم أمضي
فاعلاتن
في دروب مبهمهْ
فاعلاتن فاعلا
أجرح الصمت
فاعلاتن فـ
بضوء الكلمة
علاتن فعلن
– قصيدة: تصدعات في مرايا الذاكرة – المجموعة ص 11

وفي قصيدة أخرى يستخدم الشاعر عمر العناز تفعيلات بحر ( الكامل ) وزحافاته:

ورق
متفا
بذاكرة المساء مبعثر
علن متفاعلن متفاعلن
وتنهدٌ طفلٌ
متفاعلن مُتْفَا
بروحي يعثر
علن متفاعل

– قصيدة: وجع عراقي الملامح – المجموعة – ص 77
وأما ( القافية ) . فهي في معناها الفني الإجرائي (( مصطلح يتعلق بآخر البيت يختلف فيه العلماء اختلافا يدخل في عدد أحرفها وحركاتها )) فهي عند الخليل بن أحمد (( آخر ساكنين في البيت ومابينهما والمتحرك قبل أولهما، وهي عند الأخفش آخر كلمة في البيت ))
وتعد القافية واحدة من الظواهر الفنية السائدة في الشعر العربي، وربما دعا بعضهم الى التخلص منها كليا، وبالرغم من كل هذا، فقد ظل الشاعر العربي الحديث مشدودا اليها ولايخفى ما للقافية – بوصفها عنصرا أساسيا من عناصر بناء القصيدة- من اثر على صعيد الإيقاع والدلالة، بما تمتلكه من طاقات صوتية وإيحائية، حتى غدت القافية هي النهاية التي ترتاح اليها النفس.
ويعد عمر عناز شاعرا متمكنا الى حد كبير من الظواهر الفنية في تراثنا الشعري، نظرا لصلته العميقة بالتراث، وهو اذ يسعى الى تشييد عمارته الشعرية على أساس الحداثة، فانه لاينفصل كليا عن مافي هذا التراث من غنى وثراء في مادته الشعرية.
والشاعر عمر عناز يمكن أن نلاحظ اشتغاله على ثلاثة أضرب من القافية:
1. القافية المتواطئة: وهي ضرب من القافية يعتمد على تكرار مفردة بعينها على نحو عمودي وفي نهايات السطور الشعرية، وقد أشار محمد بنيس اليها بصفتها القافية التي تنادي توأمها في البيت الموالي أو الابيات الموالية:

وانظر إليا
واقرأ شحوبك في يديا
.. عرسا نديا

نلاحظ أن حرف ( الياء ) و ( الألف ) قد اشتركا في تأسيس قافية متواطئة، وقد جاء تكرارها ليؤكد الميثاق بين المتكلم من جهة والمواجهة والتماس ( إليا- يديا- نديا ) من جهة ثانية، وهي أيضا إشارة الى فكرة الإتحاد والمشاركة بين الإنسان ومظهر من مظاهر الطبيعة التي ينتمي اليها المتكلم ( الإنتماء الى المحنة الكبرى جوازا أو مجازا ) وهو اتحاد مقاوم لعناصر الخوف والضياع المتمثلة في ( جسدي مقابر للتواريخ )
2. القافية المتناوبة والمتوالية: وتعني وجود أكثر من قافية في القصيدة الواحدة أو المقطع، تتأتى على التوالي أو التناوب ومن أمثلة القافية المتناوبة في مجموعة عمر عناز:

أ‌. في دروب مبهمه
أجرح الصمت
بضوء الكلمه
ب‌. في ظلالي
أنا المسكوب بين يديك نهرا
يشاكسه انشغالك بالآلي

جـ. لأن المتون
كذبة كبرى
وأن الظنون

والملاحظ أن القافية جاءت على التناوب ( مه / مه ) ووزنها ( فع ) وكذلك ( لي / لي ) وايضا ( ون / ون )، لقد منحت هذه القافية المتناوبة، فرصة التكلم في القصيدة، كي يعبر عن وجده الصوفي بين ( مبهمة- الكلمة ) وبين ( ظلالي- بالآلي ) وبين ( المتون = كذبة ) و ( الظنون = خدعة كبرى ) التي هي ليست أكثر من عربون اسئلة مقدمة رغم غموضها وتأصل أعماقها وغرائبيتها ومفاجآتها الى فسحة ( تساوي مساحة مالاأراه- أو – مساحة ماقد أراه أمامي ) توجد على مسافة أو مساحة لتعليل التناقض بين ( مالا أراه وماقد أراه ) وكلها تشتغل على جدلية التشابك والتنافر بين طيات القصائد، وبخاصة قصيدة ( هكذا تنضج الاسئلة )
3. القافية المتجاوبة ( المتداخلة ): يتغير مكان القافية اذ ترد أول مرة في نهاية السطر، ثم تتكرر في بداية السطر الثاني، وينظر اليها ناقد على أنها ضرب من ( التكرير في النص لاتتوقف عند نهاية الابيات، حيث أن المفهوم القديم للقافية ثبتها فيه ) ومثال على ذلك.

أ‌. واستفتني مابين أن.
أو بين أن ..

ب‌. كل ماحولي أسميه أنا
وأنا لست أنا

وأما التكرار، فيمكننا أن نضيف الموسيقا اللغوية الى الإيقاع الشعري والتي تتأتى من اختيار الألفاظ مع حسن التجاور في التركيب، وهذه الموسيقا الداخلية يمكن متابعتها بحيث (( اذا كانت الأصوات بحسن اختيارها ودقة توزيعها، واكتمال مُواءمتها للحالة الشعورية تمثل الجانب الداخلي في موسيقا القصيدة))
ويعد التكرار ظاهرة لغوية وظاهرة موسيقية بالدرجة الثانية، لأنها تثري الايقاع وتحاول أن تعوض النواحي الموسيقية الخليلية في قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر فالشاعر (( يقوم بتنظيم الكلمات في القصيدة على الوعي بالتناظر والتناغم والتناسب والإيقاع، وعلى الوعي بوجوهها الأخرى من تنافر ونشوز وتناقض..))
وعندما يقوم التنظيم يتكرر عنصران: التكرار والتنوع، والعنصر الأول ( التكرار ) يتشكل بطرق مختلفة لدى كل شاعر، ومن ذلك تكرار الكلمات (( التي تنبني من أصوات يستطيع الشاعر بها خلقَ جوٍّ موسيقيٍّ خاص، يشيع دلالة معينة، أسلوب قديم، لكنه أصبح على يد الشاعر المعاصر تقنية صوتية بارزة تكمن وراءها فلسفة..))
وينتج هذا موسيقا تحرك القصيدة (( في العلاقات بين الكلمات كاصوات ليس إلا، وان معنى القصيدة انما يثيره بناء الكلمات كأصوات، أكثر مما يثيره بناء الكلمات كمعانٍ، وذلك التكشف للمعنى الذي نشعر به في اية قصيدة أصيلة، انما هو حصيلة بناء الأصوات)) وخلاصة القول أن التكرار يظهر في النص على أربعة أضرب هي:
1. تكرار الحرف:
2. تكرار كلمة:
3. تكرار جملة:
4. تكرار عبارة أو مقطع:
تكرار الحرف: (( قصيدة الطين آخر ماتبقى – مثالا ))
تكرر حرف ( الواو ) في هذه القصيدة ( 9 ) مرات، لينتج موسيقا داخلية، وهو يتكرر جعل الجمل تصاغ بالتركيب نفسه، وهذا ما أشبع المقطع بنغم متكرر:
( ودليل خطوي / وحنّاء / ولا اتبصّر / وانطفأ المساء/ ويزفر/ ويعيد ارخنة الحرائق / ولعلني… الخ )
تكرار الكلمة: (( قصيدة تصدعات في مرايا الذاكرة – مثالا ))
تكرر ضمير المتكلم بنوعيه ( أنا – المنفصل ) و ( انني – المتصل ) في هذه القصيدة ( 9) مرات ايضا، ةان تكرار ( الوحدة – الكلمة- = ضمير المتكلم ) لها دلالات معنوية، حيث (( تمثل – القصيدة الأنوية- اي الأنا الشاعرة – بوصفها فاعلا شعريا نائبا عن الشاعر في ميدان العملية الشعرية- المركز البؤري الاساسي والجوهري-، الذي يجب فحصه ومعاينته وتأويله حين يتعلق الأمر بأي اجراء قرائي يغامر باقتحام عالم القصيدة )) ، وتشكل ( الأنا) التي تخرج من أعماق المتكلم على هيئة محور التركيب في بناء القصيدة، وفيها تمركزات دلالية لها نغمة موسيقية خاصة، ويتجاوز هذا التكرار اعتقاد بعضهم بأن فيه عجزا لغويا، فقد ورد للتماثل اللغوي الذي يحمل تموجا موسيقيا وهو يبني معناه:
( وأنا انزف / أنا في هذي الظلال/ انني شيخ الأماني/ أسميه أنا/ وأنا لست أنا/ وأنا يا أنت / أنا سادن الموت/ انني اكره/ وأنا العق )
تكرار الجملة: تكررت في القصيدة اعداد من الجمل منها:
( وكنا نذرنا / وكنا / وكنا )
تكرار عبارة أو مقطع: تكررت أكثر من عبارة أو مقطع في القصيدة ومنها:
( اسير من طرق تعبى/ الى طرق تعبى/ الى طرق تعبى )
التدوير: ظاهرة إيقاعية واسعة الإنتشار في الشعر الحديث، ويعني في القصيدة الحديثة امتداد السطر أو الجملة الشعرية حسب طبيعة التجربة الشعرية فالتدوير على هذا الأساس يلبي (( حاجة تعبيرية، وموسيقية لتحقيق ايقاع التجربة )) وقد جرّب التدوير على نحو واسع شعراء الحداثة العربية من السياب الى ادونيس وقد حظيت جهود الأخير (( بنجاح نسبي قياسا الى محاولات زملائه كالسياب مثلا، إلا أنها ظلت جهودا تتسم بقدر عال من القصدية والبراءة ))
أما حسب الشيخ جعفر فيعد رائدا للقصيدة المدورة في شعرنا الحديث وابرز فرسانها، إذ انه أعطى لها قيمة كبيرة أثرت بناء القصيدة الحديثة، ويرى احد النقاد أن التدوير هو محاولة يريد بها الشاعر أن ينقل للشعر إيقاع الحركة الدائرية للكون والزمن
وقد عني الشاعر عمر عناز، بمختلف الظواهر الإيقاعية المتميزة التي تحقق ثراء موسيقيا ودلاليا للقصيدة، ومن هذه الظواهر تستوقفنا ظاهرة التدوير التي نجح العناز في تحويلها الى عنصر فني وحيوي يحقق إيقاع التجربة، ويرفدها بالتنوع والثراء ومن أمثلة التدوير في مجموعته هذه اخترنا:
1. والماء
مُتْفاع = مستفع
في دلو الرحيل مكدر
لن متفاعلن ( مستفعلن ) متفاعلن
2. عنوان وجهي
متْفاعلن مت
انني لا أبصر
فاعلن
ان تدفق مشاعر المتكلم، هي ذاتها مشاعر المقهور المسكون بالأسئلة وبالحنين الى ( أمان خارج الدهشة ) تقابلها ( آمال ندور فيها حول ضمائرنا ) هذا التدفق جعل الشاعر عمر عناز ينساب مع القصيدة كانسياب الماء الرقراق في الجداول الرومانسية الأخاذة، ولايكثرث لتفعيلة بحر ( الرجز ) التي تطل على استحياء مخرجة رؤوسها العذبة من تفعيلات البحر الأساس ( الكامل ) – الهادر – الراقص- المجنون أحيانا- ويلون عمر عناز موسيقاه اللغوية بذلك التزاوج اللطيف بين ( البحور المركبة ) و ( البحور الاحادية النغمة والموسيقا ) على الرغم من تفوق الموسيقا المركبة على هدوء ( بحر المتقارب ) وغيره مثلا.

الإيقاع الداخلي: لايقتصر الإيقاع في النص الشعري على العروض، وأعني الوزن والقافية وانما ثمة موسيقا أخرى تنبع من أعماق النص، من خلال العلاقات التي تربط بين عناصره أو تكويناته الداخلية وينشأ هذا الإيقاع من خصوصية اللغة الشعرية، المشحونة بالدهشة وصور التضاد والتوتر الذي ينبثق من المناخ الدرامي للنص الشعري ولعل القوافي الداخلية والتجمعات الصوتية والنبر، كلها عناصر تتضافر فيما بينها لإنتاج الموسيقا الداخلية.
إن صلة الشعر بالموسيقا صلة مصيرية غير قابلة للفصل مطلقا، وتطورت هذه الصلة بتطور الفن الشعري المنظوم محكوما بهندسة موسيقية منتظمة لاتقبل الخلل وهي محاولة لاستثمار (( إيقاع الجملة وعلائق الأصوات والمعاني والصور، وطاقة الكلام الإيحائية والذيول التي تجرها الايحاءات وراءها من الاصداء المتكونة والمتعددة )) وهي بذلك (( تعتمد إيقاعا جديدا يستمد أغلب مقوماته من نظام الحركة وطرائق تفاعل العلاقة الداخلية التي تؤسس مجتمعة بنية النص ذاته، ولكن هذا الإيقاع الجديد، لاينفي القديم أو يلغيه بشكل نهائي صارم
تعتمد أغلب قصائد الشاعر عمر عناز على تركيز الإيقاع في بؤر صوتية معينة، والإفادة من النشاط الصوتي المتميز لكل تجمع صوتي من هذه التجمعات، ومثال على ذلك قصيدة ( مسلة من دموع ) :
فصوت ( السين ) بترديده العالي، وإثارته اللافتة، وضغطه الإيقاعي الواضح، يتكرر الى نحو مثير للانتباه، ويمكن حشده خطيا بالشكل الأفقي الآتي:
( دست/ سِفْرا/ فتناسلت/ شمس/ المستحيل/ سؤال/ سنبلات/ السماء/ لست/ ليس/ السطور/ يسيل/ سطوري/ جسر/ واسق..الخ )
فضلا عن حرف ( الشين ) ذلك الذي يقاربه ويعاضده ويعمق حسه الايقاعي:
( الشمس/ يشع / انشطار / شمس/ عشقا / ريشها / شؤوني/ فشؤوني/ عشب/ الشكول/ شاكس/ شارع/ اندهاشي…الخ )
وكذلك صوت ( الراء ) المتضامن معهما في علو هذه الاصوات التي تحيل القصيدة على أجوائها الموضوعية:
( بصدري/ الفجر/ سِفْرا/ ترانيم / عمري/ عشرين/ خاطر/ اقتراف/ راكضا/ أدري/ تبعثرت/ فاعبر/ الزهر/ ترمم/ حريق/ براحتي/ رمل… الخ )
كما يمكن متابعة أصوات أخرى على هذا الصعيد شكلت بؤرا صوتية استجابت لإيقاع الفكرة التي نهضت عليها القصيدة، كما توافقت مع إيقاع السرد الذاتي الذي قاده الراوي الشعري.
إن الإيقاع في قصائد الشاعر عمر عناز بالاعتماد على المعطيات السابقة، ضاعف من طاقاته الإبداعية الإيقاعية، بتفعيل عناصر السرد المختلفة كالمكان والزمان والشخصية، وارتفع ايقاع الحكي الى مستوى تسريع عمل الانفعال، وزيادة معدلاتها الصوتية مثل ( دست / فتناسلت/ جسر / انشطار/ شؤوني/ بصدري/ ترانيم / تبعثرت..الخ ) من أجل اشاعة مزيد من البؤر الصوتية التي نجح الشاعر عمر عناز نجاحا مبهرا وفذا في جعلها تتيح للمتلقي/ القارئ أن ينوع في أساليب تلقيه القرائي للمجرى اللغوي الذي تسير فيه القصيدة.

« Older entries